رأي
استقلال السلطة القضائية وثقة الناس بقرارات المحاكم هو سمة من سمات الحكم في النظم الديمقراطية التي تعطي للقضاء دورا مهما في حل النزاعات القائمة بين الافراد انفسهم او بينهم وبين الحكومة, الحكومة التي كثيرا ما تخطئ في اجراءاتها او اثناء ادائها اليومي لاعمالها الاعتيادية خاصة اذا كانت هذه الحكومة من الحكومات الجديدة المتأتية نتيجة لصراعات اجتماعية وسياسية او نتيجة تغيير بسبب الحرب اوالاحتلال كما حدث في الدويلات التي انبثقت من تفكك الاتحاد السوفيتي او من تفكك يوغسلافية الاشتراكية اوالعراق بعد عام 2003 حيث استلمت مقاليد الحكم غالبية ليست لها اية خبرة ادارية لادارة الدولة والمجتمع وليست لها خلفية ثقافية واسعة في عملية تلك الادارة، لا بل تحكمها مفاهيم دينية او عرقية او مذهبية وفئوية ضيقة وبعيدة عن كل ما قررته الحضارة في العالم من اسس لحماية حقوق الانسان وحياته وخاصة الفئات الضعيفة والمهمشة كالنساء والاطفال والمحكومين والمعاقين والارامل والايتام والمسنين والمتقاعدين وذوي المورد المحدود او الواطئ.
وعندما لا يؤسس نظام ادارة الدولة والحكم وفق مبدأ سيادة القانون القائم على العدالة والمساواة في المجتمع حينذاك تستفحل كل انواع واشكال الجريمة ومنها جريمة الفساد الاداري والمالي حيث تستغل اجهزة الدولة عموما والتنفيذية خصوصا الضعف في تطبيق القانون وبالتالي تنحرف عن مسارها فتصبح دوائر الدولة دكاكيـن للكسـب المادي الشخصي فتنتهك حقوق الجماعات من قبل السلطة وحقوق الفرد حيث يعاقب البريء دون جرم اقترفه وعلى العكس يكافأ المسيئ كونه صاحب ثروة يتقرب عن طريقها لصاحب القرار ويبقى طليقا مطمئنا على الرغم من ارباكه للمجتمع بفعله الجرمي.
ومن جراء ذلك الظلم يضطر الناس في اخر الامر للتمرد واللجوء للعنف والفوضى والقتـل وهذا ما يزيد الطين بلة (حسب المثل العراقي)، لذا يستوجب ايجاد نظام ادارة متين وسليم يعتمد على المؤسسات الدستورية, والدستور الذي يحدد الحقوق والواجبات لكل من الافراد والسلطة على حد سواء.
فمن أولويات تثبيت سلطـة القانون الاخذ بمـبدأ الفصل بين السلطات الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية استقلالا حقيقيا وغير شكلي، مع الاخذ بعين الاعتبار مدى التعاون فيما بينها وتبادل الرقابة وفقا للدستور والقوانين المرعية, على أن تفحص هذه القوانين كلما تطلبت الحاجة الى تعديلها بما يتماشى مع متطلبات التطور والنمو الاجتماعي والاقتصادي للبلد وبما يتلائـم مع مستجـدات ذلك التطور بأعتبـار ان المجتمع كائنا حيا ينمو ويتحرك ونتيجة لهذه الحركة تظهر على السطح حاجات وافكار وعلوم جديدة تحتاج الى اعادة النظر بمضمون وهياكل النظام القانوني والقضائي تسهيلا لعملية النمو هذه من ناحية وتجنبا لما تفرزه هذه المستجدات من سلبيات قد تؤثر على عملية النمومن ناحية ثانية.
وعلى العكس من ذلك ما جرى في العراق بعد التغييرحيث مرت اكثـر مـن (10) سنوات على قبر النظام الدكتاتوري المتخلف ولازالت بعض القوانين والانظمة التي شرعت فـــي العهد العثماني وايـام الحكم الملكي والحكم الصدامي اللا إنساني تطبق فى الوقت الحاضر على الرغم من عـدم ملاءمتها للواقع الاجتماعي الذي يعيشه شعب العراق اليوم، وما تتميز به الدولة من تباينات دينية ومذهبية وقومية تتطلب العمل بشكل عقـلاني على إيجاد نصوص جديـدة لاقامة هويـة وطنيـة تعبـرعن ارادة جميع مكونات المجتمع العراقي بعيدا عن العصبية القبلية والعرقية والطائفية التي مزقت نسيج المجتمع واضعفت جميع تلك المكونات مما زاد من استفحال الجريمة وخاصة جريمة الفساد الاداري والمالي.
ويمكننا القول ان بعض القوانين العراقية – القديمة – المعمول بها الان لا تواكب حقوق الانسان على الرغم من التأكيد على هذه الحقوق في الدستور الجديد الا ان الملفت للنظر
هو أن المادتين (38 و39) من الدستور والتي تخص الحـريات والحـقوق قد نصت على اصدار قانون خاص ينظمها علما بأنها مذكورة بالدستور بشكل مطلق دون قيد مما يشير الى وجود نية لدى ساسة العراق اليوم لتقييد تلك الحقوق والحريات التي نص عليها الدستور وهذا النحو يجانب الاتفاقيات والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الانسان والتـي صادق عليها العراق مما يضعف ثقة المجتمع العراقي بنظامه وبالتالي يـؤدي الى اتساع الفجوة بين المجتمع وحكامه فنكون في ازمة تمثيل الديمقراطية اي الازمة بيـن العهــود التي اعطاها المرشحون في الانتخابات وبين الايفاء بتلك العهود بعد الفوز وكذلك يضعف ثقة المجتمع الدولي بحكومة العراق.
ومن القوانين العراقية التي تعتبر متخلفة عن الركب الحضاري والتي تخـالف حقوق الانسان قانون العقوبات رقـم (111) لسنة 1969 المعدل بعشرات التعديلات التي أجريت لصالح النظام وتضمنت عشرات المواد التي تعاقب بألاعدام وبطريقة تنم على الاستهتار في حق الناس بألحياة , وكذلك قانون اصول المحاكمات الجزائية رقم (23) لسنة 1971 الذي سمح بتدخل السلطة التنفيذية بشؤون السلطة القضائية وفق المادة (136 الفقرة ب) منه والتي نصت بعدم جواز احالة المتهم على المحكمة في جريمة ارتكبت اثناء تأديته لوظيفته الرسمية أو بسببها الا باذن من الوزير المختص، وخلافا لمبدأ الولاية العامة للقضاء, كذلك قانون الجنسية الذي ألغي بعـد التغيير وشرع من جديد على عجل, وقانون العمل رقم (71) لسنة 1987 الذي حرم العمال من الكثير من الحقوق المعترف بها دوليا اضافة الى قانوني الخدمة المدنية وقانون انضباط موظفي الدولة وغيرها من القوانين /التجارية والاقتصادية والمالية.
والمهم جدا هنا ان نذكر ان السياسة الجنائية – الخطة والاستراتيجية الجنائية- المعمول بها في العراق لازالت متخلفة ومجانبة لحقوق الانسان ايضا والمعتمدة على طريقة الوصول للدليل عن طريق انتزاع الاعترافات من المتهمين بالقوة والطرق القسرية والقمعية، لا بل حتى الوحشية مع عدم اعطاء الدور للاساليب العلمية الحديثة للوصول الى الفاعل او القائم الحقيقي بالعمل الجرمي كفحص الحمض النووي وفحص الـدم وجهاز كشـف الكـذب واستعمال الاشعة فوق البنفسجية وتحت الحمراء وغيرها من الادلة الفنية والمادية والتي تخـفف من الاعتماد على افـادات الشهود التي يـعتريها الكثير من الشكوك العلمية اليوم ويجعل العاملين على هذه السياسة عرضة للاتهام بعدم الانصاف مما يخل بمبدأ الردع العام باعتباره حالـة اقتناع الناس بعدالـة العقـوبة وبالتالي اي عند عدم اقتناعهم بذلك ستبقى حالت التمرد على القوانين مستمرة.