رأي
الوجود في كفة وأنا والله في الكفة الأخرى. هذه هي العبارة الأخيرة من سيرة الرماد (صدرت طبعتها الثانية عن الموسسة العربية العام 2015) ليحيى الشيخ الإنسان والفنان.
وهذه العبارة تختزله كله وتختزل سرده في هذه السيرة الجميلة، التي تعد واحدة من أجمل المتون السردية السيرية العراقية الحديثة، وتعطي فرصة كبيرة لتأمل مبنى هذه السيرة وتشكلها الجمالي والإنساني الشديد الرقة والرهافة، فهي- أي العبارة السابقة- تختصر الحافة الحادة التي يقف عليها السارد على مبعدة من الوجود ليكتب عن تجربته منذ الطفولة إلى وقت قريب من وقت إتمام كتابة السيرة، وليشرف عليها ويراقب بحدة هذه المسافة بين أنا والله في كفة والوجود في الكفة الأخرى.
وهي مسافة فيها ما فيها من الوعي ومن الإدراك الذي ينتج من حساب الخسارات، لا بوصفها خسارات كما هو في الحالات الاعتيادية أو في السير الاعتيادية وخاصة التي يكتبها المنفيون أو المشردون أو المغربون أو الفنانون، ولكن بوصفها مكاسب، فهو لا يحصي الأعمال التي كان يمكن أن ينتجها لو كان يعيش في مرسم مستقر وفي مكان ثابت وفي وطن يضمه، ولكن يحصي الأعمال التي كان يستطيع أن ينجزها وتخلى عن فكرة إنجازها لأنه لا يريد أن يتم شيئا ولا يريد أن يكون قد وصل إلى نهاية شيء أو انحاز إليه.
هو يبدأ بالفكرة ويفني فيها السنوت التي تصل إلى العشر ويجمع المواد ويعد الدراسات، ويشرع بانجاز عمل أو اثنين أو ثلاثة، كما في حالة مشروع الريش، ثم يهجر المشروع بما يحيل إليه من وجود، فهذا الأخير في كفة وهو والله في كفة، الله الذي لا يختلف عنه، إذ في عرف الصوفية، وفي عرف الفنانين الكبار الله حال فيهم ومعهم. وهو أصلا قريب لله بحكم انتسابه إلى عائلة دينية مندائية.
أما الوجود فهو أمر خارجه، وسيظل كذلك، بينهما مسافة ثابتة ولا يجوز أن تذوب أو تخف، ولا يحق له أن يمتلكه، فامتلاك الوجود والحلول فيه يعني انتهاء الرغبة في الاستمرار والاكتشاف والتأمل الذي ينتج الفن وينتج السيرة.
يسير يحيي الشيخ في كتابه ساردا تجربته مع المسافة تلك، فهي في أوضح حالاتها وأشدها حين كان صغيرا يقف على مبعدة من الأشياء مع الله في طقوس المندائيين، وهناك (في الفصول: في العراء والقيم) كانت تتاح له مسافة كبيرة للحياة وللعيش وللسعادة، وبالنسبة للكتاب، للسرد.
وتضعف هذه المسافة حين يهجر الله ويقترب من الوجود درسا وعملا وصداقة وزواجا ومنفى ليكون ضالا في دروب الحياة وساردا عاديا في السيرة يسطر الحوادث تسطيرا في الفصول: الخروج ونداء الأشياء.
وأخيرا (في الفصول: الاستجابات وسهيل وقرينه والريش الحي) يظهر السارد واعيا بضعف المسافة بين الذات والوجود وقلقا من تلاشيها، فيكون متأملا وشاعرا، ومجربا ومحاولا استعادة المسافة، وآملا بذلك، وساعيا من أجله حين يهجر مشاريعه من دون إتمام، وحين يدرك تماما أنه بالمسافة وحدها يحيى، وأنه لا بد من أن يبقيها حية ونابضة، فأنا والله في كفة وفي الكفة الأخرى الوجود.