رأي

70 عاما على تأسيس الأمم المتحدة

70 عاما على تأسيس الأمم المتحدة

ياسر عبد الحسين

الحالة الأمميّة بشكل عامّ مُعقـَّدة بكلِّ نمطيّاتها الحضاريّة، والإمبراطوريّة، والكولونياليّة، والقوميّة، والدولتيّة. وبين سجلِّ تطوُّراتها الجيواستراتيجيّة وعُصُورها الصناعيّة، وبين الكونيّة والانفتاح، والحوار الحضاريّ، أو الانغلاق والانعزاليّة، وبحُرُوبها الحارّة والباردة تعكس تفاصيل التاريخ السياسيِّ للعالم، وكلَّ إسقاطاته على الخريطة بخيره وشرِّه.. بظلمه وعدله.   خريطة العالم القديم بعد وستفاليا التي جمعت عالم الجنوب بعالم الشمال مازالت تتصدَّر القاعة الرئيسة لأهمِّ منبر دوليٍّ اليوم في العالم، تأملت فيها وانا اشارك في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بدورتها السبعين، تلك المنظمة الاعلى دوليا، وهي التي لم يتصوَّر حتى مُؤسِّسوها أنّها ستـُؤسِّس المدينة الفاضلة العالميّة، ولكن كانت مُحاوَلة لتأسيس منظومة دوليّة تـُعبِّر جيوسياسيّاً عن القوى في عالم ما بعد الحرب العالميّة الثانية على خطى توازن القوى القديم.   عبر تاريخ الأمم المُتحِدة، وسجلِّ أمنائها من النرويجيِّ تريجفي لي، والسويديِّ داج همرشولد، ويوثانت من بورما، والنمساويّ فالدهايم، ومن بيرو خافير بيريز دي كويلار، ثم المصريّ بطرس غالي، ومن القارّة السمراء، وغانا كوفي أنان، والكوريّ الجنوبيّ بان كي مون حاولت أن تكون جزءاً من الحلِّ في الأزمات الدولـيّة. فالأمم المُتحِدة ليست مُتحَفاً تاريخيّاً؛ لأنَّ صياغة نظام للأمن الجماعيِّ الذي يقوم على المصلحة الدولـيّة في صيانة الأمن والسلم الدولـيّين من جهة، وعلى تضامُن الدول، وترابُطها لدفع العدوان من جهة أخرى عبر مجلس حكماء الدول.   ولكن يبدو أنَّ نظام الحوكمة العالميّة لا يخرج أحياناً عن كونه يُمثـِّل ظاهرة مايكروفونيّة تخرج أحياناً عن السياق الدبلوماسيّ بحذاء غورباتشوف، وأوراق الميثاق المُمزَّقة من القذافي في إطار دبلوماسيّة المُؤتمَرات، أو دبلوماسيّة القِمّة، وأظهرت أدوات هذا التنظيم مُنتهية الصلاحيّة؛ لأنـَّها تُمثِّل (أكسباير سياسيّ) في عصرنا الحاليّ.   جاء إنشاء الأمم المُتحِدة عام 1945 لوضع تنظيم جديد للجماعة الدولـيّة؛ حتى لا تقوم حرب عالميّة ثالثة بعد أن نكبت الحرب العالميّة الثانية العالم بويلاتها، ولكن يبدو أننا أمام حرب عالميّة ثالثة مُتمثـِّلة بالحرب العالميّة على الإرهاب التي شملت قارّات العالم السبع، وإن عقد التحالف الدوليَّ اجتماعاته عبر لجانه الخمس السياسيّة؛ لبحث تطوير مُناهَضة، وتحجيم داعش، لكن يبدو أنَّ الشكل المُؤسَّسيَّ القادم لا يستطيع إسعافه بين تأثير التحالف الدوليِّ لما يزيد على 60 دولة ضدَّ تنظيم داعش.   التحدِّي الجديد في دور المنظمة الدولـيّة هو دور الفرد في العلاقات الدولـيّة، وليس الاعتماد فقط على أمزجة الحكومات والدول رغم أنَّ الميثاق أشار بصراحة بالقول: (نحن شُعُوب العالم)، لكنَّ المُؤرِّخ الشهير بول كيندي Paul Kennedy حاول أن يُعيد رسم (برلمان الإنسان) رغم أنَّ نمطيّات القانون الدوليِّ التي تراجعت على مُستوى التنظير والتطبيق.   عُمُوماً لم تكن فكرة وفلسفة الدفاع عن الإنسان حاضرة بقوة في هذا المشروع رغم أنَّ أفكار عمانوئيل كانت Immanuel Kant   حاولت أن تضع نمطيّة العلاقات بين الدول على أرضيّة القانون الدوليِّ، وشكّلت في البداية مُنطلقات تشكيل عصبة الأمم، ثم لاحقاً الأمم المُتحِدة، وكيف تأُثـَّر الرئيس الأميركيّ ويلسون الداعي إلى إنشاء عصبة الأمم بكتابه (مشروع السلام الدائم) الذي يدعو فيه إلى إنشاء حلف بين الشُعُوب؛ لأنـَّه السبيل الوحيد لتجنـُّب الحُرُوب عبر هذا المنبر الدوليّ الذي كان من المُفترَض أن يُمثـِّل الصوت الرئيس لأضعف الشُعُوب كما يقول بطرس بطرس غالي الأمين العامّ السابق للأمم المُتحِدة في كتابه (خمس سنوات في بيت من زجاج). الصوت الإنسانيّ الذي لايزال لا يرى في المنظمة أنـَّها لم تـُقدِّم شيئاً لمُواجَهة الفقر، ومُعالجة الكوارث، وتحقيق التنمية، أو ما يُسمَّى الوجه الناعم لميثاق الأمم المُتحِدة، لكنَّ المُلاحَظ هو تصاعُد دور الأجهزة الفرعيّة على حساب الجهاز الأمّ هو الأقرب، واقترب أكثر من مُقارَبة الدبلوماسيِّ المُخضرَم جورج كينان George Kennan الذي قال: إنَّ الميثاق الأمميَّ أسرف في الوعد.   المطبخ السياسيّ المُتمثـِّل بمجلس الأمن إشكاليّة مُتكرِّرة في طريق إصلاح هذا الجهاز مع بقاء الدول الخمس: (الولايات المُتحِدة الأميركيّة، وروسيا، والصين، وبريطانيا، وفرنسا) تتمتع بحقِّ النقض (الفيتو)، وكأنَّ دول العالم الأخرى مازالت لم تبلغ سِنَّ الرشد السياسيِّ ليُؤهِّلها لأن تكون ضمن الخمسة الكبار على الرغم من أنـَّها أثبتت حيويّتها، وقدرتها على الصعود كفاعل مُؤثـِّر في الحياة الدولـيّة، وكما جاء هذا الاعتراف في وقت سابق على لسان الرئيس الأميركيِّ باراك أوباما أنه يُؤيِّد طلب الهند الحُصُول على مقعد دائم في مجلس الأمن، علاوة على مساعٍ سابقة لكوفي أنان في تحويل عضويّة مجلس الأمن إلى 24 عضواً.   ميثاق الأمم المُتحِدة، وتحديداً المادّة (108) تنصُّ على أنَّ التعديلات تسري إذا صدرت بموافقة ثلثي أعضاء الجمعيّة العامة، وصدّق عليها ثلثا أعضاء الأمم المُتحِدة، ومن بينهم جميع أعضاء مجلس الأمن، أي: إنَّ الإصلاح سيصطدم بالأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن؛ لذا لا يُتوقـَّع إصلاحات جوهريّة تمسُّ الميثاق ما لم تمسَّ الجهاز الأهمَّ فيه، وهو مجلس الأمن. وتبقى لعبة السُلّم والثعبان التي تمارسها بعض الدول باستخدام حقِّ الفيتو.   أصبح هذا الجهاز يُعبِّر عن تراث مرحلة انقضت في تاريخ العلاقات الدولـيّة، ولا يبدو أن الترقيع ينفع في تحديث أدواته لتناسب وتفاعلات العصر الحديث بقدر ما يجري من إصلاح جذريٍّ يمسُّ عمق النظام العالميِّ بشكله الجديد، ولا تعكس نمطيّات شكل التحدِّيات التي يمرُّ بها النظام العالميُّ من إرهاب، ومُناخ مُضطرب، وتحدِّيات أخرى، بل ظلت إعاقتها الولاديّة بإصابتها بالشلل الذي همين على النظام الدوليِّ بشكل الحرب الباردة.   ولأنَّ ميكانزيميّة العمل الجديد تتطلب صياغة أنماط جديدة لطبيعة قيادة المُجتمَع الدوليِّ، وكما أنَّ انعكاسات الانفراج السياسيِّ لا تبدو أنـَّها تأتي من صِيَغ الأمم المُتحِدة بقدر ما إنـّها تلعب أدوار الرقابة والوساطة لا تبدو أنـَّها تـُمثـِّل تلك الأدوار الرئيسة حتى إنَّ شبكة التنظيمات الدولـيّة بدأت تأخذ مديات أوسع من الجهاز الأمميّ.   من مُؤتمَر سان فرانسيسكو عام 1945 إلى اجتماع الجمعيّة العامّة للأمم المُتحِدة سبعون عاماً اختلفت الأمور من 51 دولة عضواً فقط، أمَّا اليوم فهذا العدد يُقارب المائتين نقف اليوم أمام توزيع يختلف عن توازن القوى في إطار تحديث توزيع جديد لمفهوم القوة عبر إطار الأمن التعاونيِّ (cooperative peace) اختلف رُبّما قليلاً في تحليل فشل هذا الجهاز في تحقيق مقاصده عبر الاقتصار عن الهيمنة الأميركيّة. ولنتكلم بواقعيّة وإن كانت كذلك: المُشكِلة الكبرى في طبيعة هذا الجهاز، ومقاصده.   ويبقى السؤال: هل يُمكِن وجود عالم بلا أمم مُتحِدة، أم إنَّ مقولة الرئيس الأميركيِّ دوايت آيزنهاور بأنَّ الأمم المُتحِدة ستظلُّ أفضل آمال البشرية من حيث التنظيم التي تستبدل ميدان الحرب بمائدة التفاوض رغم ما يشوبها من عُيُوب، وإخفاقات.

مقالات أخرى للكاتب