رأي
في (أصغي إلى رمادي) لـ(حميد العقابي) (الجمل 2003)، استوقفني الموقف من كلمة اللوز في القصيدة التي نظمها جمال مصطفى صديق حميد في مخيم (اوردكاه كرج) الإيراني، حينما كانا لاجئين يعانيان من ظروف المخيم القاسية: العنف، والبرد والحر، والعقارب، والأفاعي، واليأس من الخلاص.
والقصيدة بعنوان (الولد الخاسر حد اللوز). وهي تصف خسارات العراقيين التي لا حد لها من حرب طاحنة هي حرب الثمانينيات مات فيها الشباب جملة وتهاوت أحلامهم ودُمرت المدن والنفوس وانسحبت الحياة إلى حدود الخوف والإشاعة والضغينة والجبن والاستسلام.
هي خسارات تصل إلى (حد دخول جراد المستقبل غابات الحاضر) كما يقول شاعر القصيدة تلك.
هي خسارات تتوقف السيرة الذاتية (أصغي إلى رمادي) كثيرا عند وصفها: حميد كان جنديا في أول الثمانينيات. دخل حرب إبادة في معارك البصرة لم ينج منها إلا بكسره يده بمفك الدبابة التي يقودها، ليهرب، بعد حصوله على إجازة مرضية، من الجيش إلى شمال العراق، ومنه إلى إيران لاجئا، وإلى دمشق، ثم إلى الدنمارك حيث استقر شاعرا وكاتبا للرواية (له ثلاث روايات الضلع 2008 ولم تخل من سيرته، وأقتفي أثري 2009، والفئران 2013).
وحميد يكسر هذا الخيط الزمني الذي يمتد من لحظة هربه من معارك البصرة الطاحنة إلى استقراره في الدنمارك لاجئا، بعودات مطولة إلى طفولته في الكوت، وإلى أبيه العاجز العاطل الذي يعاقب نفسه بضربها حد إدماء وجهه، وإلى أمه التي كانت تكره حياتها مع الأب. وإلى أهل الحي الذين يتفنون في صناعة الشائعة وفي تقصي الجوانب السرية في حياة الأخريات. وإلى علاقته المبكرة بـ(سهام) ابنة الجيران التي قتلها أبوها في عرض الشارع انتقاما لشرفه، ووافقه الآخرون على فعلته التي تنتصف لشرف أكثرهم يضيعونه في السر، كما يقول السارد، وهو يبرر تلك السلوكيات بعجز الناس عن مواجهة السلطة، وتوجيههم انتقامهم وقسوتهم إلى ذواتهم، وإلى الآخرين، فيفيدون السلطة مرتين مرة باستلامهم، ومرة بإبادتهم لأنفسهم بإيديهم.
هل يمكن أن تحيط الكلمات بالخسارات الكبيرة تلك التي تصفها السيرة الذاتية؟ عودا على المشهد الذي بدأت به، يقول حميد العقابي: إنه لم تعجبه كلمة (اللوز)، وإنه حاول هو صاحبه أن يستبدلاها، ولكنهما لم يجدا الكلمة البديلة فأبقياها. ففي النتيجة الكلمة لا تهم ما دامت الخسارة كبيرة، وما يهم هو القصيدة التي تعبر عنها، وفي حالة السيرة الذاتية هو السرد الذي يصف الخسارات، ويعيد التذكير بها، والتنبيه إليها، علّ ذلك يقلل من تصاعدها، الذي قد يسببه النسيان.
أليس ذلك هو أحد أهم أدوار السرد عموما، والسيرة الذاتية خصوصا؟!