رأي

الزلزال الجيوسياسيّ

الزلزال الجيوسياسيّ

ياسر عبد الحسين

هلالنا الخصيب بالدم وسط غُيُوم المُستقبَل السوداء يعيش إعادة التشكيل العنيف.. زلزال جيوسياسيّ ضارب بالعمق الاجتماعيِّ، والسياسيِّ، والاقتصاديِّ في المنطقة.. طوفان اجتماعيّ قبل أن يكون سياسيّاً. رُبَّما يُعيد ترتيب شكل الدولة القوميّة الوستفاليّة الحديثة التي تشكـَّلت بعد مُعاهَدة التسوية الأوروبيّة عام 1648 التي أظهرت نمطيّة في بناء، وفلسفة الدولة القائمة على السيادة، وتنظيم العلاقات بين الوحدات الدوليّة الأخرى.

كنا نقرأ في أوراقنا الصفراء قصة الزلزال الإقليميَّ العربيَّ الذي صاحَبَ مراحل التحوُّل في شكل بناء الدولة العربيّة عبر اتفاقـيّة سايكس بيكو عام 1916 التي أُبرِمت عبر تفاهمات سِرّيّة بين المملكة المُتحِدة وفرنسا وبإشراف من  الإمبراطوريّة الروسيّة لتقسيم الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا بعد احتضار الرجل العثمانيِّ على سرير الموت.

مشرط راسمي الخرائط الحديثة لهذا الهلال كان بيد الفرنسيِّ (فرانسوا جورج بيكو)، والبريطانيّ (مارك سايكس)، وكما علـَّمتنا كتب التاريخ المنهجيّة أنَّ الاستعمار يُمثـِّل السرطان التاريخيَّ في المنطقة العربيّة رغم أنَّ مصطلح (الاستعمار) إيجابيٌّ في القرآن الكريم. قال الله تعالى: ((وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيْهَا)).

الخرائط الجديدة التي رُسِمت في المنطقة أنشأت كيانات جديدة غير مُتجانِسة، وطرَّزتها مُؤتمَرات أخرى، مثل: (وعد بلفور، كتاب تشرشل الأبيض، مُؤتمَر سان ريمو، مُعاهَدة لوزان، مُعاهَدة سيفر) التي منحت النكهة لمطبخ التشكيلات الجديدة.

المُشكِلة اليوم وفي ظلِّ الأحداث الدمويّة لربيعنا الأسود الدامي أنّنا نـُفضِّل أن  نـُحافِظ على تشكيلات سايكس بيكو بلا تغيير. وبعيداً عن كوليرا المُؤامَرة يبدو أنـَّنا سنرفع الإطار التقليديَّ لخرائطنا المُعلـَّقة على جدران المنطقة العتيقة، وكما يُعبِّر الأستاذ محمد حسنين هيكل عمَّا يجري اليوم: إنَّ ما نراه في هذه اللحظة هو مشروع قوميّ يتهاوى، وبقاياه تجري إزاحتها الآن، كما أنَّ هناك مشروعات أخرى تتسابق لملء الفراغ، حتى وإن كان هذا الفراغ سيُملأ بالوهم الداعشيِّ لدولة الخلافة.

الخريطة الجديدة للمنطقة تلاشت حُدُودها على مُفترَق مفهوم الأمّة.. الحُدُود التي لم تستوعب أبناء جلدتها ستعيش عمليّة إعادة تقسيم المُقسَّم.. بعيداً عن الأساطير أنَّ بعض علماء الاجتماع يذهبون إلى أنَّ الأمّة-الدولة التي تعيش على وحدة قسريّة تعود سريعاً إلى التفكـُّك بزوال الجزء الضاغط عليها، وكما حدَّثني ذات يوم الكاتب العراقيّ حسن العلوي أنَّ هناك تقسيماً ذهنيّاً نعيشه في عالمنا قبل أن يكون هناك سُور، أو حُدُود.

الصورة التي دائماً تـُرافِق الرؤية العربيّة، والشكل الديمقراطيَّ عقب كلِّ التحدِّيات وجدتها بدقة في النصوص التي كتبها برنار لويس، وهو مُفتي الغرب الكبير -كما يُعبِّر عنه محمد أركون- بقوله: (ثمة أمور يتعذر عليك فرضها بالقوة كالحرية مثلاً، أو الديمقراطيّة... الديمقراطيّة عُقـَّار شديد المفعول.. يتوجَّب إعطاؤه للمريض بجرعات صغيرة بالتدريج، وإلا فقد تـُغامِر بقتله، وفي العُمُوم على المُسلِمين أن يفعلوا ذلك بأنفسهم)، وعُمُوماً فإنَّ برنارد لويس قد عرض في كتابه الصادر سنة 1967 (الحشاشون.. الإرهاب والسياسة في العصر الوسيط للإسلام) نماذج فكريّة لا تبتعد عن مُخيَّلة الغرب بأنَّ ما تعيشه المنطقة هو صراع سُنيّ-شيعيّ عمره 1400 سنة، وعلى الغرب أن ينظر عن بُعد إلى هذا الصراع من دون أن يتدخّل فيه، وكما يقول كارل ماركس: (التاريخ يُعيد نفسه مرتين، مرّة على شكل مأساة، ومرّة على شكل مهزلة).

الذي أعتقده أنَّ هناك عِدّة أسباب لهذه التحوُّلات الجذريّة، وأكثرها أسباب ذاتيّة داخليّة؛ لأنَّ الحالة العربيّة المُجتمَعيّة لا تبتعد كثيراً عن حالة الاستقطاب الطائفيِّ، ورفض الآخر بوضوح. بالمقابل لا نستبعد العامل الاقتصاديَّ، وتحديداً خارطة شبكة أنابيب الغاز التي سوف تـُعيد تشكيل المنطقة بعد انخفاض مُعدَّلات الاحتياطيِّ العالميِّ من النفط، وزيادة استخدام الغاز من قِبَل أوروبا.

اقرأ الدول الأولى المُصدِّرة للغاز في المنطقة (روسيا، إيران، قطر)، وتفاصيل مشاريع (نابكو جيهان، مشروع آيسترم الروسيّ، الخط القطريّ) سنعرف لماذا حصل كلُّ هذا الخراب في المنطقة، وسنعرف أسباب التقاطع الحتميِّ في المصالح الاستراتيجيّة لتلك القوى الكبرى، والإقليميّة.

مقالات أخرى للكاتب