رأي
كلمة الجديدNew في قاموس العلاقات الدوليّة تـُسبِّب حساسيّة عربيّة مُفرِطة؛ لأنـَّها تعني حُدُوث طوفان في المياه الإقيلميّة العربية الراكدة، فكان مثلاً إعلان (النظام الدوليّ الجديد) على لسان الرئيس جورج بوش الأب لحظة انهيار جدار برلين، وانطلاق حرب الخليج الثانية عام 1991 ليُشكـِّل أوَّل نزاع عربيّ-عربيّ من طرازه، ونوعه، ثم مشروع (الشرق الأوسط الجديد)، وهو بداية لمشروع المحافظين الجُدُد في الولايات المُتحِدة الأميركيّة بعد حرب 2003 كتب فيما بعد ذلك شمعون بيريز كتابه (الشرق الأوسط الجديد).
في عالمنا المعولم يبدو أنَّ صورة إمبراطوريّات القوى العظمى في ميزان القوى العالميّ بكلِّ مُستوياته الاقتصاديّة، والسياسيّة يحتاج إلى مُراجَعَة، ويبدو أنَّ النظام العالميَّ يتجه بنحو مُتسارع نحو الإقليميّة، وهذه القوى الإقليمية تتمحور في كانتونات خاصّة وكأنها بجُزُر معزولة تنظم عملها، وتفاعلاتها مع الأخرى بصورة ارتباط هذه القوى الكبرى مع القوة الإقليمية؛ لكي تنتج ما يُمكِن تسميته النظام الإقليميّ الجديد.
لكنَّ المحاور الإقليميّة الجديدة التي تشكـَّلت في قلب الشرق الأوسط لم تبتعد عن توصيفات (الهلال الشيعيّ)، و (القوس السنيّ).. أتذكـَّر جيِّداً قبل سنوات عندما قابلتُ السياسيَّ العراقيَّ البارز المرحوم الدكتور أحمد الجلبيّ في منزله خارج المنطقة الخضراء ببغداد، حين أهداني أحد أفكاره التي وأدتها الجغرافية المنكوبة للمنطقة، والتي وضعها في كتاب أصدره تحت مُسمَّى (الإقليم الرابع)، ومُلخَّصه قيام اتحاد (عراقي- سوريّ-إيراني-تركي) يشمل النواحي السياسيّة، والاقتصاديّة، والثقافيّة، والعسكريّة؛ بما تـُمثـِّله تلك الدول من عمق تاريخيٍّ ضارب في المنطقة.
هذا التشكيل يستحضر عواصم السجلِّ التاريخيِّ لإرث الشرق الأوسط (العثمانيِّين، والصفويِّين، والعباسيِّين، والأمويِّين)، وقد استعار اسم المشروع من كتاب (التنبية والأشراف) للمُؤرِّخ المشهور المسعوديِّ الذي وصف أرض هذه الإقليم بأنها قلب العالم، ومركزه العراق على خطى عالم الجيوبلتكس ماكندر فقد تميَّز ماكيندر في طريقة تحليله الجيوبوليتيكيّ الذي هو في حقيقته تحليل جيواستراتيجيّ باهتمامه بالأقاليم، وتحليل عناصره، ونظرته للمشاكل الجغرافيّة، وآخرين وجدوا في فكرة الجلبيّ أنها إحياء لحلف بغداد في خمسينيّات القرن الماضي.
الجلبي أطلق المشروع رغم معرفته المسبقة أنَّ الفيتو الأميركيَّ كان واضحاً ضدَّ المشروع، كما هو أعلن ذلك بنفسه لاحقاً.. المشروع الذي كاد أن يصبح في حقبة سبقت أحداث الأزمة في سوريا عام 2011 حقيقة عبر تفاهمات الطاقة بكلِّ أصنافها الغازيّة، والنفطيّة، والكهربائيّة بين دول المنطقة تلك، والذي بدَّد أحلام مشاريع مُقابلة كانت ترى أن هذه الاتفاقات ستـُعيد رسم خارطة موازين القوى في المنطقة، وكتب لاحقاً هذا المشروع في رسالة للرئيس الأميركيِّ باراك أوباما وصف هذا المشروع الذي سيقف أمام أيِّ مشاريع تطرُّف في المنطقة.
المشروع الذي ينتظر بغداد الجريحة، وسوريا المُمزَّقة، وطهران التي وُلِدَت من رحم مُعاناة الحصار الاقتصاديِّ بزهو التنمية؛ لتقف أنقرة على مرمى تحدِّيات داخليّة كبرى في البيت التركيِّ وُئِدَ باستنزاف عناصره.
بالمقابل.. كانت نظرة المشروع عميقة. إنه لا يُمكِن حلُّ أيِّ قضايا للمنطقة، أو قضايا في هذا الإقليم باستبعاد أحد الأطراف، وهذه حقيقة، إنَّ استبعاد إيران -مثلاً- في حوار جنيف الأوَّل، والثاني حول الأزمة السوريّة لم يُساعِد على حلِّ الأزمة، فيما كانت مُشارَكة إيران والعراق -مثلاً- في حوار فيينا الأخير حول سوريا قد أثبت صحته.
جغرافية القلق التي أحاطت المنطقة لم تكمل مشاريع التعاون، أو التكامل في النظام الإقليميِّ، بل حاولت بناء محاور حادّة مُتنافِسة، فالنظام الإقليميّ في أيِّ منطقة بالعالم يحوي مجموعة من الدول التي تواجه خطراً، أو تحدِّيات مُشترَكة، وتجمعها رؤية مُتقاربة، وليس شرطاً أن تكون مُتفِقة تنطلق منها هذه الدول التي تجمعها هذه الشراكة في وضع استراتيجيّات، وبرامج عمل تـُحقـِّق بها مصالحها في مُواجَهة فاعلين آخرين في النظام الدوليّ.