رأي
ترى، كم شخصا ممن علقوا وانتقدوا بغضب التصريح الاستفزازي للنائب السابق طه اللهيبي سمعوا مباشرة ما قاله هذا الشخص وكيف وأين قاله؟ أعتقد أن الغالبية لم يسمعوه مباشرة بل عن طريق التواتر والعنعنة (عن فلان عن فلان عن ...الخ) مع ما يصحب ذلك من رش للبهارات والمنكهات ومقتضيات الديكور الفيسبوكي.
قبل قليل، سمعت نص تلك المشاتمة البذيئة وسأعود إلى تلخيصها بعد سطور، ولكني أستدرك وأقول: إن هذا التصريح الذي أثار ضجة ما بعدها ضجة، ودفع بحالة الاستقطاب والأحقاد الطائفية إلى أقصاها، وبغض النظر عن ظروفه وظروف قائله، هو تصريح مدان ومرفوض، ولكنه ليس جديدا بل هو نتفة صغيرة من ترسانة التشاتم الطائفي المتبادل في العراق، ولهذا نتساءل: ما الإضافة الجديدة التي جاء بها اللهيبي لقاموس فولكلور التشاتم الطائفي المتبادل والشائع في العراق؟ بصراحة، لا جديد، فمنذ العهد الملكي، وربما ما قبله، والأشخاص الطائفيون من العرب السنة يعيرون ويشتمون مواطنيهم من الشيعة العرب وغير العرب بأنهم عجم وشعوبيون وفرس ...الخ، أما الأشخاص الطائفيون من الشيعة فهم يعتبرون مواطنيهم العرب السنة من الأتراك والشركس والقرج والماسونيين ...الخ. هذا طبعا قبل أن تُبعث حية وتشيع مفردات من قبيل النواصب والروافض وأخواتها. دعونا ننسى القسم "القومي" الخاص بالعرب والأكراد من هذا القاموس في الوقت الحاضر!
كل هذا الهذيان والتشاتم الطائفي معهود وشائع، ومعروف أنه قد بلغ ذروته في عهد نظام صدام حسين الذي كان له، أو لأحد أقطاب نظامه، حصة كبيرة فيه حين نشرت الصحافة الحكومية "جريدة الجمهورية / على الأغلب" على شكل سلسلة من المقالات بعد قمعه الدموي للانتفاضة الشعبية في ربيع 1991 بعد هزيمته المذلة في الكويت، نشرت الكثير من هذا العَفَن الكريه.
لقد قررتُ ألا أعلق على الموضوع إلا بعد أن أسمع ما قاله اللهيبي شخصيا ومباشرة من تسجيل الفيديو وقد سمعت ما قاله قبل قليل، وعلى افتراض صحة التسجيل، وهو صحيح كما أعتقد، سأقدم روايتي الشخصية لما شاهدت وسمعت:
كانت النائبة حنان الفتلاوي ذات النبرة الطائفية الصريحة والحادة والاستفزازية ولها مواقف وتصريحات عديدة مدانة، كانت تتكلم بعصبية عن ثورة العشرين ويفهم من كلامها أن (الشيعة العراقيين هم الذين قاموا بهذه الثورة المسلحة وقاتلوا البريطانيين ودفعوا التضحيات ولكن العرب السنة هم الذين استولوا على الحكم)، وهنا قاطعها اللهيبي وعلق بجملة نصها (إيه، قام بها الهندي أبو العمارة)، فردت عليه الفتلاوي بالقول (أبو العمارة يشرفك ...الخ)، ثم واصلت كلامها داعية شريكها في الحوار إلى ترك عمان التي يقيم فيها الآن ويأتي للدفاع عن أهله وقالت نصا (إذا كنت أنت ترضى تعطي امرأتك لمسلحي داعش نحن ما نرضى)، وعندها تحول الحوار إلى شتائم وصراخ.
أما المذيع أو "الإعلامي" الذي أدار الحوار، ومع احترامي لشخصه، فقد كان فاشلا بكل المقاييس، وشارك بدوره في الزعيق بعد أن فقد السيطرة على الحوار. وهنا نتساءل: ترى، ألا يثير الريبة والشكوك فعلا جمعُ شخصين كاللهيبي والفتلاوي، معروفين بتطرفهما الطائفي ومواقفهما معروفة للقاصي والداني، في حوار تلفزيوني يشاهده الرأي العام؟ هل نحن أمام نسخة شاحبة لتقليد القرقوز فيصل القاسم الذي حول البرامج الحوارية التلفزيونية إلى حلبة ملاكمة ومبارزة بالأحذية في بعض المناسبات؟ ألا يتحمل مَن يضع النار قرب البنزين مسؤولية الحريق الوشيك؟ وهل ينقص العراق المزيد من الحرائق؟
وأخيرا، ما علاقة حنان الفتلاوي وطه اللهيبي وأمثالهما بثورة العشيرة ليتمسحوا بأذيالها، ويلوثوا بهاءها، ويسيؤوا لقامات ثوارها الباسقة، وهما - ومن معهما - الواصلان إلى السلطة "التشريعية" عبر التحالف مع الغزاة ومن خلال عملية سياسية طائفية ورجعية أوجدها احتلال أجنبي طالما صفقوا له ولا يزالون يتوسلون منه أن ينقذهم من سكاكين ورصاص التكفيريين الدواعش؟؟!
دعونا ننتقل إلى مائدة إعلامية أخرى ولكنها ستكون خارجية هذه المرة رغم أنها من ذات الأطباق والمنكهات، لنتساءل: كيف نصف ونفسر التفاهات والجعجعات الإعلامية التي نشرتها قبل أيام قليلة وكالة "فارس" الإيرانية، حول مَن وصفته بـ(البطل المغوار الجنرال سليماني الذي يقود العراقيين في مواجهة مسلحي داعش، والذي جعل التحالف الدولي يضمحل)؟ لقد توسل النظام الإيراني لأصحاب الشأن في التحالف الدولي لكي يقبلوه طرفا فيه، وحين رفضوا طلبه انقلب على عقبيه وصار يعاديهم ويضربهم تحت الحزام وعلى طريقة المثل العراقي (لو ألعب لو أخرب الملعب). وبغض النظر عن الموقف من هذا التحالف الدولي الزائف والمكون من أطراف أغلبها متورط في إنتاج ودعم العصابات السلفية الانتحارية كداعش وغيرها ولكن ألا يحق للناس أن تتساءل: هل فقد العراقيون القدرة على إنجاب الأبطال المغاوير ليستوردوا سليماني وأمثاله أم أنها محاولة سخيفة للمتاجرة بتضحيات العراقيين من قبل الأوساط الإيرانية، وتبيان أنها تسجل المزيد من النقاط في مواجهة خصومها الإقليميين؟ وهل يتحمل الوضع العراقي العام والمحكوم باستقطاب طائفي شديد تصريحات سمجة كهذه؟ ومن هو المستفيد من هكذا تصريحات بالدرجة الأولى؟ وأخيرا، لماذا يلتزم حكم المحاصصة الطائفية والسلطة التنفيذية فيه بقيادة العبادي الصمت تجاه هكذا تصريحات مستفزة؟ وكيف سيجرؤ العراقيون من العرب السنة على دعم الجيش والقتال إلى جانبه ضد العصابات التكفيرية المسلحة كداعش إذا كانت إيران تعلن أن "بطل المعركة" هو جنرالها "المغوار" سليماني؟!
من الطبيعي أن تسارع السي أن أن العربية، وقناة الجزيرة والشرقية والصفحات والمواقع والقنوات العراقية "المتدعشنة" جزئيا أو كليا إلى نشر هذه التصريحات الإيرانية على أوسع نطاق، ولها أن تفعل ذلك، فالقانون لا يحمي المغفلين كما يقول الإنكليز، وجعجعات إعلامية غبية إيرانية كهذه تصب في مصلحة داعش ومن يواليها، وهي لن تصب بأي حال من الأحوال في مصلحة الشعب العراقي المذبوح من الوريد إلى الوريد يوميا بمجازر عصابات داعش وتفجيراتها وإعداماتها للأسرى التي باتت لا تفرق بين السني والشيعي والمسلم والمسيحي؟ وبالمناسبة: لماذا ابتلع الإعلام العراقي، حتى المستقل منه، لسانه ولم يرد بشيء على هذه التصريحات الإيرانية المسيئة، والتي تصب المزيد من الزيت على النار الطائفية المشتعلة منذ إقامة حكم المحاصصة الطائفية الفاشل وحتى اليوم؟
زبدة الكلام هي أن مشكلة أمثال هؤلاء الناس الحقيقية تكمن في أنهم لا يريدون أن يفهموا حالة البلد المسمى "العراق"، بل هم يحاولون المتجارة ببضاعتهم السامة باستغلال هذا الوضع المحزن والدامي، فمع من لا يفهم ليس ثمة مشكلة لأنها تنتهي بإفهامه ما لا يفهم، إنما المشكلة الحقيقية، بل والكارثة الفعلية، هي مع مَن لا يريد أن يفهم، أو مع من يصرّ على أن فهمه هو الصحيح وغير القابل للنقاش وليذهب العراقيون وعراقهم "إلى قير"!
وكم يتمنى المرء، وهو يشهد ويشاهد هذه الأحوال والمواقف أن تنشأ وتترسخ تقاليد لدى بعض النخبة المثقفة العراقية، والمستقلين النقديين منهم خصوصا، لفضح هذا النوع من السياسيين والإعلاميين الخطرين وبطريقة متوازنة وموضوعية، عسى أن يسهموا في انقاذ البلاد والعباد من شر مستطير يريده لهم الطائفيون المحليون والإقليميون!
- كاتب عراقي