رأي

كيف يُصنـَع الداعشيّ؟

كيف يُصنـَع الداعشيّ؟

ياسر عبد الحسين

لستُ مِمَّن يُؤمِن بأنَّ داعش هي نتاج إجماليّ لأيادٍ خفيّة تقف خلفها مُؤامَرات دول كبرى على خطى نظريّة المُؤامَرة Conspiracy Theory التي تـُعَدُّ قطب التحليل السياسيِّ العربيِّ، والتي تـُروِّج أحياناً لتسطيح الرأي العامّ، وتـُريد أن تـُصوِّر بأنَّ داعش هي كائنات ثقافيّة غريبة نزلت من بلاد بعيدة تهدف إلى تقسيم المنطقة بقدر ما أؤمِن بأنَّ داعش بنت بيئتها، وهي مُنتـَج خالص للعجز الاجتماعيِّ العربيِّ، وفشل إكسير التعايش في مسارات المُجتمَعات العربيّة، ونتاج طبيعيّ لدول فاشلة Failed States، وعسكرة المُجتمَعات، ووحش البطالة، وفوبيا اغتراب الهويّات المُعشعش في الذهنيّة العربيّة، وتاريخ لا تـُشكـِّل فيه مُفاجأة قطع الرؤوس، وسبي الفتيات، ومشاهد الدم التي ألِفتها عُيُون المنطقة ثلاثـيّة الأبعاد تعقبها صرخات التكبير، ومنابر الجمعة المهووسة بالصراخ بالتراث المُفخـَّخ، وفتاوى التعصُّب على خطى ابن الحرانيّ، والمكر الخبيث في تسويق النصِّ الدينيِّ؛ بهدف تزويق طموح الخلافة في معبد العقول المُجمَّدة، وهو مُشكِلة تربويّة حقيقـيّة في مدراس التعليم العربيّة، ناهيك عن دول وظـَّفت هذا السرطان الاجتماعيَّ لأهدافها، ومصالحها الإقليميّة.   وقد كان لمعالم في الطريق لسيِّد قطب، والعقيدة الواسطيّة لابن تيميّة، والتوحيد لمحمد بن عبد الوهاب، والعقيدة لابن باز، والأسس الأخلاقـيّة للحركة الإسلامية لأبي الأعلى المودوديّ، ورسائل النور لحسن البنا، ومنهج الأنبياء لمحمد سرور بعض من مُكوِّنات التشكيل الثقافيِّ للشخصيّة الداعشيّة، ناهيك عن كتابات مُنظـِّري التنظيم ذاته مثل فرسان تحت راية النبيّ للظواهريّ، وإدارة التوحُّش لأبي بكر ناجي، وملة إبراهيم لأبي محمد المقدسيّ، ودعوة المُقاوَمة الإسلاميّة العالميّة لأبي مصعب السوريّ، وغيرهم.   فإنَّ هناك اتجاهاً آخر مُهمّاً لم يُسلـَّط الضوء عليه، وهو إنَّ الأعداد الكبيرة من مُتطرِّفي التنظيم لم يقضوا سنوات في الإعداد والتأهيل في هذه البيئة القاسية، ولكن عاشوا لحظاتهم في بلدان اتسمت بالحُرّيات العامّة، وحقوق الإنسان بالغرب.   كيف يُعَدُّ هولاء في تلك البيئة، هل يكتفون بأقراص مُدمَجة للعريفيّ، وخطب العرعور، ومُحاضَرات القرف الفكريِّ على شبكة الإنترنت؛ ليدخلوا بازار التجنيد المفتوح في الغرب من أوسع أبوابه بحثاً عن المُغامَرة.   حسب تقرير صحيفة واشنطن بوست أنَّ نحو 5000 مُتطرِّف انضمّوا إلى داعش في الفترة من شهر تشرين الأوَّل 2014 إلى كانون الثاني 2015، ليصبح عدد المُنضمِّين إلى داعش من الدول الثمانين قرابة 20,000 وفقاً للمركز الدوليِّ لدراسة التطرُّف والعنف السياسيّ (ICSR).   ثمّة إشارة ضروريّة ومُهمّة يُشير إليها الكاتب الفرنسيّ نيكولا هينان في كتابه: (أكاديميّة الجهاد.. أخطاؤنا في مُواجَهة الدولة الإسلاميّة) إذ يرى أنَّ التناقض الكبير الذي يعيشه مُتطرِّفو داعش ذوو الأصول الغربيّة وهم يُحبّون صُوَر LOLCATS ، ويُطلِقون على أنفسهم اسم فان بويزFan boys ، وجميعهم قد شاهد أفلام الصراع على العروش، وسيد الخواتم The Lord of the Rings، وأجزاء هاري بوتر Harry Potter، والعديد منهم قد تفاعل مع فلم ماتريكس The Matrix الذين يرون فيه صدى لانخراطهم في صُفوف القتال، وبعضهم قد تدرَّب على القتال باستخدام لعبة كول أوف ديوتي Call of Duty على أجهزة البلايستيشن PlayStation، والأكس بوكس Xbox التي تسمح بمُمارَسة اللعبة فيها بشكل مُباشِر  onlineوتشكيل مجموعات للقتل في المُدُن، وسرقة السيارات، وترويع الآمنين في عالم افتراضيّ، والتدريب على السلاح، بل استخدام خصائص حرب الشوارع والمُدُن باستخدام أسلحة مُتطوِّرة هي ذاتها أحياناً التي تستخدمها داعش اليوم في حربها الحقيقـيّة.   ولم يكن فقط لصناعة بيئة التطرُّف دور من جانب عناصر المُنظـَّمات الإرهابيّة، ولكن للبيئة الغربيّة -أيضاً- دور في هذا الاتجاه، وحتى العرب في البلاد الغربيّة ساهمت بعض سياسات الحكومات الغربيّة في حرمان المُواطِنين الجُدُد من نوستالجيا الانتماء عبر خلق ثقافة الإحباط، والإحراج المُستمِرّ.   حتى التشكيل الثقافيّ للعنف في الأدب الروائيِّ الغربيِّ يراه واضحاً مثلاً: يُعيد المشهد من يقرأ راوية دانتي (الجحيم) ضمن مجموعة الأعمال (الكوميديا الإلهيّة)، وفي مُحاوَلة لتجسيد العنف اللامعقول لقمع البشريّة بشكل هذيان تراجيديّ.   لا يُمكِن النكران في الوقت ذاته أنَّ المكتبات في الغرب زاخرة بأدبيّات التطرُّف، وأنا شاهدتُ الموضوع بنفسي خلال زيارتي بعض المكتبات التي تقع في الأحياء العربيّة بنيويورك، والغريب أن تجد الخطباء في أوروبا أكثر تطرُّفاً حتى من نظرائهم في البلاد العربيّة، والإسلاميّة، ويتحدّثون بضجيج عالٍ عن الغرب الكافر، وعذاب القبر، وزيارة القبور، والنصارى، والروافض، ودار الحرب ودار السلام، وغيرها من الموضوعات التي تستميل العقول المُتوحِّشة.   مُشكِلة العنف لم تعُد مُقتصِرة على رقعة جغرافـيّة مُعيَّنة، وحربها الفكريّة لن تنتهي بسهولة ما لم يُقابـِلها حرب ثقافـيّة عالميّة لنشر التسامُح، والتعاطي مع الآخر من باب الإنسانيّة قبل فوات الأوان.   توحُّش داعش بداية لتوحُّش من نوع آخر يُصيب الإنسان؛ لذا علينا التفكير في مرحلة ما بعد داعش ببناء الإنسان، الإنسان الذي يُمكِن أن يتحوَّل إلى (الشسمه) حسب رواية الروائيِّ العراقيِّ أحمد السعداويّ قبل بناء المُدُن المُدمَّرة.  

مقالات أخرى للكاتب