رأي

علم الإنسان العراقي

علم الإنسان العراقي

ياسر عبد الحسين

أكثر المُتابعين للحركة الثقافيّة، والاتجاهات السوقيّة الفكريّة ربما يرون أنَّ هناك رغبة جماهيريّة في قراءة بعض المصادر الأنثربولوجيّة التي تقرأ الحالة المُجتمَعيّة العراقيّة خُصُوصاً مع بداية مارثون الدورة الجديدة لشارع الحُرّية الفكريّة الضبابيّة، وسريان رواج استحضار كلِّ النتاجات التي كانت ممنوعة، ولاسيَّما المطبوعات التي تتحدَّث عن الحالة العراقيّة بطبعات مُتعدِّدة؛ من أجل الرحلة الطويلة للإجابة عن السؤال الهنتغتوني (من نحن؟)؛ لذا تصدَّرت قراءات علم الاجتماع، ورائدها الدكتورعلي الورديّ مُفرَدات التفاعل العراقيِّ الثقافيِّ على مُستوى النخب، والأفراد، والشباب، وإن كانت قد مثـَّلت مادّة غنيّة لجلد الذات العراقـيّة على خطى الحديث المُزيَّف قولاً، وفعلاً: (العراق بلد الشقاق، والنفاق). وعلى الرغم من مُرُور زمن طويل على تلك التجربة، وتغيُّرها إلا أنه اتسم بكونه لم يستعمل هذا الرواج الجماهيريَّ من أجل إعادة بناء تأسيس الذات الثقافيّة الاجتماعيّة العراقيّة، ناهيك عن أن أكثر التاريخ العراقيِّ كُتِب بأيدٍ غير عراقيّة، وأنَّ الجامعات الغربيّة قدَّمت لنا نماذج للدراسات العراقـيّة في علم الاجتماع. فعلي الورديّ خريج جامعة تكساس الأميركيّة، وعبد الجليل الطاهر ابن جامعة شيكاغو مع الدكتور حاتم الكعبيّ، والدكتور قيس النوريّ من جامعة واشنطن، وآخرون.   ثمّة أسماء عراقـيّة لامعة أشارت إلى الخصوصية العراقـيّة في كلِّ تجلياتها الإبداعيّة، والمُحفِّزة للجدل لم تمنح ذلك الاهتمام، والتفكير، والمناقشة، وأخيراً وقع بين يدَي موسوعة علميّة ضخمة تحت عنوان (قاموس الأنثروبولوجيا) لعالم الاجتماع العراقيِّ الكبير، والمُفسِّر السوسيولوجيّ الدكتور شاكر مصطفى سليم مطبوعة في الكويت احتوت على 5055 مصطلح، و683 تعريف بقبائل الشعوب، و155 تاريخاً لحياة علماء الأنثروبولوجيا تراث فكريّ ضخم حصلت على خطوطه الأولـيّة من قبل ابنته وكيلة وزير الخارجيّة سعادة السفيرة هالة شاكر مصطفى التي تطمح أن يستفيد أبناء هذا البلد من هذا النتاج الثرّ، والذي استفاد منه أبناء العمِّ من الجوار أكثر من أهل الدار؛ بسبب سياسات البعث المريضة.   قادني هذا البحث إلى كتاب آخر يُعَدُّ تحفة فكريّة رصينة، وعملاً علميّاً رائداً ومُميَّزاً، وهو دراسة مُجتمَع الجبايش في منطقة الأهوار جنوب العراق الذي أقام فيها عاماً كاملاً واصفاً المُجتمَع القرويَّ في الأهوار، ودراسته هذه هي أطروحته للدكتوراه في جامعة أكسفورد، وهي أوّل دراسة منهجيّة إحصائيّة علميّة دقيقة لا تخضع لمنطق القيل والقال، بل إلى منهج الدراسات الميدانيّة إذ يُقدِّم الدكتور شاكر منهجاً جديداً عن إمكانيّة الحُصُول على دراسة إحصائيّة بعكس ما ذهب إليه علي الوردي من أنَّ ذلك عمل مُستحيل. الدكتور شاكر الذي وصفه مُحِبُّوه بأنه (عمارتلي)، أي: من أبناء مدينة العمارة.   رُبَّما يكون عالم الاجتماع الدكتور شاكر معروفاً في أوساط المُختصِّين بعلم الاجتماع، ولكن لم أشاهد يوماً أن تقوم وزارة الثقافة العراقـيّة، أو إحدى دور النشر العراقـيّة بتبنـِّي هذه النتاجات المُهمّة، ولا مشاريع العواصم الثقافـيّة في مهبِّ الريح على الرغم من أنَّ الفلسطينيَّ حنا بطاطو يأسف لعدم وُجُود دراسات عن المُجتمَع العراقيِّ كدراسة الجبايش التي قدَّمها هذا العالم الجديد. إذ قدَّم فيها تأصيلاً مُميَّزاً لربط الحضارة العراقـيّة القديمة بتاريخ العراق المعاصر، كما يذكر الدكتور شاكر مصطفى سليم في كتابه الجبايش الجزء الأوَّل عبر الشبه الكبير بين سكان الأهوار وسكان الحضارات العراقـيّة القديمة من حيث مقاييس الرأس، والبنية الجسمانيّة، وحتى في أدوات الصيد، علاوة على مضائف شُيُوخهم المبنيّة من القصب والطين فهي تتشابه -إلى حدٍّ كبير- مع ما يُمثـِّل الهياكل الأصليّة للمعابد السومريّة القديمة في الألف الرابع قبل الميلاد، وهو يُعيد تأصيل التاريخ العراقيَّ بعيداً عن أيِّ تشوُّهات سياسيّة أرادت تحطيم بنية الارتكاز الثقافيِّ العراقيِّ للإنسان الجنوبيّ.   وبلاشك فانَّ هناك أعمالاً مُهمّة أخرى، ولكن لابُدَّ للثروة المفقودة من أن تـُستعاد في زوايا النسيان المُظلِمة. هناك جزيرة من الكنوز العراقـيّة لم تـُكتشَف بعد، ومنظومة البحث العلميِّ الأكاديميّ يجب أن تبحث عن هذا النتاج الثرّ، وهناك شخصيّات عراقـيّة مازالت على قيد العراق، كما يقول الشاعر المُبدِع حسين الكاصد.  

مقالات أخرى للكاتب