رأي
لست أشك ولو لحظة واحدة بأن المفاوض العراقي الذي خاض عام 2011 مفاوضات الاتفاق الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية لم ولن يسمح لنفسه بتجاهل رغبة أمريكية بإبقاء قواعد عسكرية في العراق. كان الوفد المفاوض كلما عاد إلى بغداد أبلغ رؤساء الكتل بتلك الرغبة، ولأن الجميع يجامل ويريد أن ينأى بنفسه عن القصة، ولا يتحمل شجاعة الاعتراف بصعوبة الوضع بعد خروج الأمريكان؛ كان الساسة العراقيون يرفضون رفضا قاطعا في وسائل الإعلام إبقاء قوات عسكرية أمريكية، ولكنهم يتوددون للجانب الأمريكي وراء الكواليس.
ولأن السيدة أمريكا لا تفضل كثيرا الصبر على هذه التناقضات المزاجية في الموقف السياسي، وخصوصا إذا ما تعلق الأمر بقضية القواعد الأمريكية، لهذا فضّل الجانب الأمريكي النزول عند رغبة المفاوض العراقي المتردد والمرتبك، وتم توقيع الاتفاقية الأمنية المعروفة في ظل امتعاض أمريكي مما حصل. وقبيل إنهاء الانسحاب الأمريكي أعلن باراك أوباما في نهاية العام 2011 "ان العراق سيمر بأيام صعبة بعد خروج القوات الأمريكية". الساسة العراقيون صدقوا فكرة إخراجهم للجحافل الأمريكية، وتعاطوا مع ذلك التصريح على أنه مجرد استشراف لمستقبل عراق ما بعد أمريكا، وليس تحذيرا واضحا بأن أصول اللعبة يمكن أن تنقلب من جديد على خلفية ذلك الخروج الأمريكي المثير للجدل.
لم يكن المفاوض العراقي مطّلعا بشكل كاف على تجربة القوات الأمريكية في بلدان أكثر أهمية من العراق، وأرسيت فيها أسس دول صناعية عميقة، كما هو الحال مع ألمانيا أو اليابان أو بلدان أخرى! هل سأل المفاوض العراقي نفسه لماذا يا ترى أبقي على تلك القوات ولم يتم إخراجها حتى بعد مرور نصف قرن على وجودها هناك؟! هل نحن مثلا أكثر كياسة من الساسة في ألمانيا، اليابان وبلدان أخرى؟!
فوق جميع ما تقدم فإن الحالة العراقية الهشة جدا كيف يمكن لها أن تستمر مع جيرة كالتي تحيط بها دون الحاجة الملحة للجانب الأمريكي، خصوصا مع عدم وجود جيش قوي، ودولة متماسكة على صعيد مكوناتها وقواها السياسية.
العراق وبعد أن انكشفت قوته العسكرية والميدانية بشكل صارخ اثر دخول غول داعش إلى الموصل فإنه استجدى الموقف الأمريكي الساند، فلم تشفع له الاتفاقية الأمنية إلا ما سمحت به واشنطن من أجل ذر الرماد في العيون.
ساستنا وفهمهم البطيء لمجريات الأمور أجبر أوباما على التخلي عن التلميح واللجوء إلى التصريح والحديث المباشر عن سياسة أمريكا ومصالحها في العراق في مؤتمره الصحفي الذي عقده في نهاية آب الماضي إذ قال: "جيشنا هو الأفضل في العالم ونستطيع أن نجتث داعش ولكن بمغادرتنا ستعود الأمور كما هي". وهكذا أجبر الأمريكيون الساسة العراقيين على تقديم مزيد من التنازلات، وبين اليوم والآخر تصل العراق طلائع قوة عسكرية أمريكية تحت لافتات المستشارين العسكريين. كل مرة ترسل الولايات المتحدة الأمريكية بضعة مئات، حتى وصل عددهم الآن بضعة آلاف موزعين بين شمال العراق وجنوبه، وهو ما يوازي قاعدة أمريكية كان يمكن الاتفاق بشأنها مع الجانب الأمريكي دون الحاجة لهذه التضحيات، بل كان يمكن الحصول في مقابلها على العديد من المميزات!