رأي
لهفي على نفس عراقية تركت جذورها في أعماق الطين الحري لما بين النهرين وفرت هاربة إلى بلاد غريبة نائية ضاعت فيها بين قديمها وجديدها.
عراقيون بالملايين تدفقوا إلى المنافي في موجات متعاقبة هاربين من قمع الحكم الاستبدادي أو الحروب أو القتل على شبهة الهوية. تعددت الأسباب وتعددت معها مصائر المهاجرين.
كلهم واجهوا في سنوات هجرتهم الأولى معضلة المواءمة بين مجموعة القيم التي نشأوا عليها وبين قيم جديدة بدت لهم غريبة وصعبة التطبيق. بعضهم نجح في إيجاد تلك المواءمة، وأولى شروط النجاح أن تتعرف إلى مجتمعك الجديد الذي اخترت أن تعيش فيه لا أن تعزل نفسك عنه.
لكن يظل هناك آخرون، وهم كثر، تصيبهم لوثة ردة عنيفة تدفعهم إلى رفض مجتمعهم الجديد ومعاداة كل قيمه وقوانينه في نكوص إلى الداخل مهين لهم وللمجتمع الذي بذلوا المستحيل من أجل أن ينضموا إليه. لذا تجدهم يحيطون أنفسهم وعائلاتهم بأسوار عالية ويصطنعون لأنفسهم مجتمعا عراقيا هجينا يعيشون فيه منعزلين. وهذا ما يفسر حيرتنا إزاء قادة سياسيين عادوا بعد 2003 وهم لا يتقنون لغة البلد الذي عاشوا فيه سنوات عديدة، وطبيعي أنهم لم يتعلموا جديدا من سنوات غربتهم الطويلة تلك. عادوا إلينا كما غادرونا، بل وأسوأ مما غادرونا به بعد أن تحكمت بهم عقدة الضياع بين مجتمعين.
يروي لنا الكاتب أزهر جرجيس مأساة أسرة عراقية تعيش في السويد، ولهذه الأسرة أبناء بينهم فتاة في سن المراهقة. ويبدو أن رب الأسرة أصيب بلوثة الخوف على ابنته المراهقة من أن (تنجرف) مع قيم المجتمع الجديد فصنع لها سجنا يقف هو ديدبانا يقظا على بوابته العالية. وفي يوم اكتشف أن ابنته المحاصرة بالرقابة قد أطالت أظافرها، فدخل عليها مهددا بالمقص. وتنبه الجيران إلى تصاعد صرخات الفتاة فاتصلوا بالشرطة. وانتهت القصة بأن دخل الأب السجن ونزعت حضانة الأطفال عن الأسرة، بل ومنعت الأم نهائيا من تتبع مكان وجود أطفالها.
هكذا هو القانون هناك، يحمي الطفل حتى من جور والديه. لن تنفع في مواجهته أو الافلات منه عزلة أو اصطناع التمسك بالتقاليد ولا حتى إغلاق الباب الذي تجيء منه الريح. ولعل مثل هذا القانون الذي يبيح نزع حضانة الأطفال يبدو في أعيننا ظالما، فلقد نشأنا ونحن لا نرى في أبنائنا إلا جزءا منا، وبالتالي يصعب علينا أن نعترف بأنهم، وبمجرد ولادتهم، أصبحوا جزءا مستقلا ومنفصلا عنا، وأن هناك قانونا يمكن أن يحميهم منا.
هزتني هذه القصة لأنها تتكرر مع المهاجرين العراقيين بأكثر من صورة، وهي تجسيد لتصادم القيم والأعراف واختلاف الثقافات.