ثقافة
مكثت للمرة الأولى في الرفاعي عام 1973 منذ بداية مايو "مايس" حتى منتصف يونيو "حزيران"، مقيما في فندق بجوار قصر المرحوم موحان الخيرالله، معتكفا على مطالعة المقررات الدراسية لبكلوريا السادس ثانوي. ورغم أني كباقي تلامذة المرحلة المنتهية في الثانوية أقرأ ساعات طويلة، نهارا وليلا، ولا يتجاوز نومي الخمس ساعات، لكني كنت أحرص على حضور صلاة المغرب والعشاء في المسجد، القريب من الشط "نهر الغراف"، والذي كان يلتقي فيه مجموعة من الشباب من جيلي، ورجال من جيل أبي.. تعرفت وقتئذ على الصديق الأخ حسين البهادلي، الذي كان مدمنا على حضور صلاة المغرب والعشاء في المسجد، وغيره من الأصدقاء؛ ممن استشهد منهم أو هاجر. وهو عرّفني على والده المرحوم الحاج علي خضر البهادلي، الذي كان وجيها محترما، ومن التجار المعروفين في مدينة الرفاعي. لكنه تميز عن غيره بتدينه، وحيويته المتدفقة، واحتضانه للشباب، واهتمامه الفائق بهم، وحمايته لهم. كان يحتفي بي وزملائي؛ بشكل أشعر معه بخجل شديد، لا سيما وأنا لست من أبناء المدينة. وعادة ما كانت النظرة "دونية" للقروي القادم من الريف مثلي، بوصفه متخلفا، إذ يُسمى ابنُ المدينة وقتئذ "حضري"، فيما يسمون القادم من الريف "قروي"، وهي تسمية لا تخلو من ازدراء مضمر، وتبخيس متكتم. بل كان سلوك الكثيرين معنا نحن القادمون من الريف، لا يشي باحترام، فقد كنت أتحسس في: مطاوي كلماتهم، وما ترمقنا به نظرات عيونهم، وتعبيرات وجوههم؛ إشارات تنعتنا بالهمجية، وهو ما كان يدعوني للهروب من التعامل معهم، إلا في حالات الضرورة، والانكفاء في علاقاتي في المدرسة وغيرها غالبا على أبناء الريف خاصة. وإن كانت هذه المواقف اضمحلت في العراق اليوم، بعد أن ذابت الحدود بين الريف والمدينة، حين التهم الريف المدينة واستهلكها، ومحى صورتَها في صورته.
للوهلة الأولى كنت أندهش من نمط تعامل حاج علي معي بثقة واحترام وتبجيل، وبصراحة كنت أحسب أنه يبالغ في مجاملتي شفقة عليّ؛ لأني غريب عن المدينة، لكن الأيام برهنت على أنه يعتز بصداقتي، وهي سجيته الشاملة مع كل الزملاء من جيلي. كان يهتم بنا جميعا اهتماما كبيرا. مذ عرفته؛ لا أتذكر يوما جئت الرفاعي، ومررت بمحله في السوق – كان رحمه الله بزازا - إلا وأصرّ بشدّة على أن يصطحبني الى منزله على وليمة الغداء. كنت أرى ابتهاجه وجذله؛ حين أجئ دكانه، وأجلس عنده، وأستجيب لدعوته. اما حين أعتذر؛ بسبب دعوة سابقة لصديقي ياس في بيت والده المرحوم خضير الجبوري "والد زوجتي لاحقا"، أو سواه من الأصدقاء، فكان يمتعظ ويحزن. لم أذق طعاما تلك الأيام ألذّ من طعام الغداء في منزله، كلّ شئ يقدّمه لا يشبه طعامنا البسيط في القرية، أو الطعام المتواضع في مطعم "القسم الداخلي"، الذي أمضيتُ فيه سنوات الثانوية في الشطرة. بعد مدة طويلة من إدماني على الغداء معه، في زيارتي الدورية للرفاعي، انحسرت الهالة؛ التي كانت تغلّف صورتَه في وجداني، وتحجبه عني، وأمسيتُ أقلّ خجلا في التحدث معه، ولفرط إعجابي بنكهة طعامهم، تجرّأت فسألته عن كيفية طبخ الطعام، وأصناف الرز والمواد الغذائية المستخدمة في الطبخ، فكان يحدثني عن أنه يحرص على تأمين الزيت الحيواني "الدهن الحر"، من خبراء محترفين بإعداده، وهكذا الرز وغيره. حين كنت ألتقيه يتفقد الأصدقاء واحدا واحدا؛ بالسؤال عنهم، ويستحثني على الدوام لتكرار زيارة الرفاعي والمكوث فيها، لحاجة المدينة للشباب المؤمنين.
كنت والأصدقاء نغامر في ارتكاب محرّمات حزب البعث، فنتداول كتبا ممنوعة، ومطبوعات محرمة، ونتحدث أمامه بالمكشوف على نظام البعث ورجاله، ولم نكن نمالئ مسؤولا أو عضوا في الحزب آنذاك في المدينة، لكن الحاج علي لم يوبخنا أو يحذرنا أو يخيفنا يوما من عواقب ذلك، مع أنه لم يكن ساذجا أو غبيا، إنما كان يعرف جيدا سطوة الرفاق وعنفهم، واستهتارهم بكلّ شئ. ولم يفتقر للحدس الذي يكشف له حياتنا السرية في "حزب الدعوة"، وسلوكنا المتهور المغامر، وأحلامنا الرومانسية في إقامة الـ"دولة الكريمة"، التي كان يبوح بها شغفنا بالدعاء المتكرر في القنوت: "اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة.."..تلك الدولة الحلم، التي تبخرت معها كل الأحلام، بل تبيّن لنا أنها أوهام، بعد افتضاح ممارسات وطريقة إدارة الأسلاميين للسلطة في العراق.
كان ملاذنا يوم لا ملاذ لنا، ملجأنا يوم لا ملجأ لنا، حامينا يوم لا حامٍ لنا، حارسنا يوم لا حارس لنا، صديقنا يوم لا صديق لنا، أبانا يوم لا أب لنا، سندنا يوم لا سند لنا، كفيلنا يوم لا كفيل لنا، مشجعنا يوم لا مشجع لنا، ظهيرنا يوم لا ظهير لنا..من أكرمنا لحظةَ فقرنا، وآوانا لحظة خوفنا، واحترمنا لحظة تشردنا..
واصل الحاج علي دعمنا ورعايتنا، وتسخير كل ما يمتلك من أجل تأمين مناخات ملائمة لممارسة نشاطنا المحضور في الرفاعي، ولم يدّخر جهدا في توفير غطاء اجتماعي لعملنا، ذلك أن عمري والأصدقاء، مضافا الى المنحدر الطبقي لأغلبنا من أصول فلاحية ريفية؛لم يكن يؤهلنا لأن نكون في مقام يحضى بالثقة والتقدير حيال الوجهاء والمتنفذين في المدينة، إلا أننا كنا نحتمي به، ونستغل مقامه الاجتماعي المرموق في تغطية مجازفاتنا.
أتذكر أننا ذهبنا؛ أنا وولده حسين والمرحوم الشهيد ياس خضير الى السيد الشهيد محمد باقر الصدر، ندعوه لإرسال رجل دين وكيلا عنه للرفاعي. فتحدث الشهيد الصدر بإسهاب عن المكانة الدينيية للمدينة، وكيف تعاقب على إمامة مسجدها فقهاء، أمثال: الحمامي، والخمايسي..وهي بحاجة الى شخصية تظفر بتأييد واسع، وغطاء شعبي يتضامن فيه أبناء المدينة. غير أن السيد الصدر أضاف: يا أبنائي أقدّر حماسكم وجهودكم وغيرتكم، لكنكم لن تقدروا على تأمين الغطاء المطلوب لرجل الدين الذي أبعثه، فأقترح أن تُحركوا وجهاء المدينة المعروفين..فعدنا واجتمعنا مع المرحوم حاج علي، وأخبرناه بتفاصيل محادثاتنا مع الشهيد الصدر. فتحمّس جدا، وجازف بأن تقعَ المهمةُ على عاتقه، بتهيئة المناخات اللازمة لذلك، عبر حثّ طبقة التجار والوجهاء، وإقناعهم بضرورة تواجد وكيل للمرجعية الدينية ممثلة بالسيد الصدر، فكان ذلك اختراقا جسورا؛ تخطى عقبتين:
الأولى: هي عدم قبول الناس وقناعتهم بسهولة لوكيل يجئ من مرجعية السيد محمد باقر الصدر، وليس من المرجعية العليا يومذاك.
والثانية: هي أنه كان يرتكب محرما شديدا لنظام البعث، الذي منع معظم مؤلفات الصدر، ولم يسمح له ببناء جهاز وكلاء، مثل سواه من المراجع.
مع ذلك تكفل الحاج علي وعائلته الكريمة كل شئ، حتى أنه أسكن في منزله الوكيل الشيخ عبدالحليم الزهيري، الذي بعثه السيد الصدر للرفاعي. وبدأ الزهيري نشاطه بندوة تبليغية كل ليلة في ديوانية بيت الحاج علي.
وبعد أن طاردنا نظام البعث مطلع عام 1980، فهربت أنا وبعض الأصدقاء خارج العراق، فيما اعتقل الآخرون، تعرض الحاج علي وعائلته الكريمة للسجن، وتحمّل التعذيب ومرارات الحبس وأوجاعه. ودخل وعائلته مرحلة هي الأقسى والأشدّ ألما وشقاءا في حياتهم، لكنه تمسّك بإيمانه وغيرته ونبله وكرمه وثباته.