رأي
تقترن ثلاثية العقلانية والحرية والعدل في سياقها التنويري بالإيمان بالنزعة الانسانية في معناها العميق، واذا كان (هيغل) يرى أن تأريخ الفكر نموذج متغير للأفكار التحررية الكبرى التي تتحول بالضرورة الى أقفاص خانقة، تثير فناءها على يد مفاهيم تحررية جديدة ومتفرعنة هي الاخرى، فإن المراقب للشأن العراقي يُصاب بنوع من الدهشة لغياب التنوير بكل تجلياته على كافة الصعد مع حضور طاغٍ لمفاهيم الثورة والتثوير، ومع ان المكونات الاثنية للبلد مشدودة بنحو أو آخر الى خارج حدودها ،لاسيما في المواقف السياسية والجمهور الذي تخاطبه بهذه المواقف، الا ان حضور التنوير يبدو باهتاً الى حد لا يمكن للمراقب أن يشاهده فضلا عن الاستمتاع به، فحين تستدعي الجماهير التي ترى في إيران نموذجاً يُقتدى في التجربة العراقية نُلفي انه استدعاء لنموذج مشوه يُقصي جلال آل أحمد وعلي شريعتي و حسين نصر وشبستري وغيرهم، إما الجماهير التي ترى في التجربة العربية نموذجاً للاستجلاب في العراق ،فهي وقعت في شراك جلب النموذج المشوه ايضاً، فبدلاً من الاستدعاء التأريخي لرفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وهم مشايخ الازهر وطه حسين وعلي عبد الرازق ،جرى استدعاء نماذج أخرى لا تقيم للنزعة الانسانية أي اعتبار، ونلاحظ هنا أن التوصيف الزمني لرواد التنوير في كل من ايران ومصر هو قبل الثورة في كلا البلدين ،قد يتساءل البعض عن صلة ما ذكُر بمآلات الوضع العراقي الراهن ؟ أتصور شخصياً أن غياب الفاعلية المدنية في العراق وهيمنة الخطاب الديني مرده الى غياب الارضية التأريخية للتنوير العراقي ،إذ لا توجد أسماء وشخصيات حفرت مسارات للعقلانية في هذا البلد على غرار من ذكُر من أسماء ، ورغم ان العراق مرّ بتجارب أطلق عليها مصطلح الثورة تجوزاً، فإنها لم تكن مسبوقة بتنوير فعال يرتقي الى أن يكون قلاعاً يستند إليها المجتمع في أوقات الهزات العنيفة التي ما فتئت تضرب هذا البلد على مختلف الاصعدة، يولع العراقي بمفردة الثورة والثوار ،الا انه سرعان ما يشيح بوجهه إذا ما سمع كلمة التنوير والانوار فهي تتساوق عنده مع مفاهيم لا يتوق الى تبنيها مهما اختلفت ظروفه وساءت، لقد أنهى (كانت) نصه المشهور الذي أجاب فيه عن سؤال :ما هو التنوير؟ بسؤال آخر: هل نحيا اليوم حقبة مستنيرة؟