ثقافة
في كتابه الأخير (الحركات الإسلامية.. قراءة نقدية في تجليات الوعي) الصادر عن دار العارف ومؤسسة المثقف العربي يتابع ماجد الغرباوي مشروعه الخاص بتعريف العقل الاجتماعي العربي. وإذا كانت خلفيات قراءته ذات أساس ديني فهذا لا يضعها في مجال التربية الدينية. بالعكس هو ينظر للدين على أنه جزء من الحياة. ولذلك يهتم به كحالة في الوجود. أو كمبدأ في الحضارة لتفسير غوامض آليات نشوء وتطور الأفكار.
يبدأ الغرباوي من الأزمة الحالية ليعيد صياغة التصورات السياسية لدول المنطقة. وهو يعتقد أننا لحل هذه الأزمة لا نحتاج لاستعمال القوة. وإنما للبدء ببرنامج إصلاحات على غرار أول حركة إصلاح بشرت بنهاية الإقطاع العثماني ودولته المستبدة. ويضرب أمثلة من السيرة الفكرية للأفغاني والكواكبي. ويضع بينهما جهود الشيخ النائيني. باعتبار أنه حلقة وسط بين الراديكالية في السياسة والإصلاح في التفكير. ولذك لم يكن من المستغرب أن يعيد قراءة بعض آيات من القرآن الكريم. وعلى ضوء نتائج الدراسات الدلالية لتفسير المعنى من خلال سياق العقل البشري كما فعل الكواكبي في (طبائع الاستبداد) حينما أضفى على القرآن مشروعية علمانية.
لقد ألح الغرباوي في مجمل فصول الكتاب على ضرورة نقد المنهج. ورأى أنه إجراء ضروري لانتشال الوعي وتصحيح المسار (ص١١). وبالنقد وحده (كما أضاف لاحقا) يمكن التعرف على مبررات السلوك اللاأخلاقي والانتهازي الذي انحدر إليه المسلمون بعد وصولهم إلى الحكم (ص١١). وانتشار العنف تحت ذريعة الجهاد مع أن استعمال السيف لا يكون فعليا إلا بوجود كافر. وأحيانا لا يكفي الكفر في فعلية الجهاد ولا بد من خصوص الحرابة. فالجهاد لم يشرع ابتداء ولكنه شرع لدرء الحرابة، والنبي لم يدخل معركة إلا بعد أن استنفد كل الطرق والحيل السلمية. و يتوقف عند مشروع سيد قطب و يرى أنه تكفيري. أو على الأقل يمهد للتكفيريين الطريق. ويسهل عليهم خلع صفة الإيمان، الواسعة والمرنة، عن المسلمين. أو يتواطأ مع الحنابلة في تشريع الموت والقتل كحل لكل الخلافات. فسيد قطب (في معالم على الطريق) مثل ابن حنبل لا يفتي بصدد واقعة مخصوصة ليتحدث عن الضرورات والإكراه. ولكنه يؤصل حكما ويشرع تشريعا له صفة الدوام. وهذا النزوع التدميري ينبني على أساس مفهوم الحاكمية المستورد من فكر الخوارج والذي أعاد المودودي توطينه في العقل الحديث.
هذه الإشكالات تستدعي منا الانتباه لما يسميه الغرباوي: الوعي الحركي (ص١٥) الذي منبعه ظاهرة الخوف من الآخر وعدم الوثوق به (ص١٦). فقد نجمت عنه أوهام وضعت الحركات الإسلامية في إسار الماضي، وصنعت فراغا بين واقعها النفسي والحاضر (ص١٥).
لقد بدأ الاسلام من معاناة قهرية ضمن مجتمع تجاري ضعيف عسكريا ومعقد بأعرافه الاجتماعية. وكان همه الأول تحرير الروح من الاستعباد والاسترقاق الذي كفلته بنية المجتمع. وما تقليد الهجرة إلا لمعالجة هذا الفراغ. وهو البحث عن مسكن آمن للأرواح المستضعفة. ولذلك إن ما يجري اليوم يطاله إشكال شرعي ومؤاخذة أخلاقية (ص٢١).
وكما قال الباحث: إن بعض الحركات الإسلامية تكون بأموال ومباركة من دول غير إسلامية، فطالبان تأسست بالدعم الأمريكي، وبعض هذه الحركات دخلت في تحالف أدى إلى الابتعاد عن الاستراتيجية الأساسية (ص٦٦). فالحركات الإسلامية الراهنة هي بنت الوعي الأسطوري الملتبس (ص٣٥) والذي يحمل كل علامات الثقافة المهيضة الجناح.
ويرى أن الأسباب وراء ذلك كثيرة وأهمها: ١- الخط الأحمر المفروض على تكتيك الخطاب الديني واحتضاره تحت ضغط التفكير الشعبي الناقص والحامل لآيات التخلف والجمود والخرافة، ٢- الاستبداد الذي وضع العقل في أدنى مستوياته وسمح للاشعور بالنمو بنسب فاحشة غطت على كل أشكال التفكير والاجتهاد،٣- عزلة النخب الثقافية وسقوطها في مشكلة التعالي، ٤- احتكار رجل الدين لحق التربية والتوجيه وحصوله على حصانة تحميه من النقد والمراجعة والتخطي، حتى تحول إلى نص مقدس أو امتداد للمحرمات والممنوعات (ص٣٤-٣٧).
ولذلك كان التشريع للنقد أولوية في تجديد الفكر الديني (ص٤٧). وكلنا سمع بمحنة الشيخ علي عبد الرازق المتهم بالتطاول على مشروعية حروب الردة. وأعتقد أن الانحياز لمشروعية التواتر والمحاكاة يؤسس لمجتمع إقليمي من المرايا المتعاكسة. كل مرآة تعكس نفسها. حتى يحل الخيال أو الصورة محل الحقيقة بسبب غيابها واستحالة الاتصال معها.
وهذا بصورة ضمنية يعيدنا إلى نمط من التفكير والتعليل الذي يقوم على التسليم الصامت بأسطورة الطبائع الثابتة والخصائص الدائمة (بلغة صادق جلال العظم)(7).
إن الحركات الإسلامية برأي الغرباوي صناعة بشر وهي ليست جزءا من المطلق الإلهي والرباني ولا نتاج عوامل غيبية مفارقة (ص٦٠)، وقد طرأت على الإسلام والجماعات التي نذرت نفسها له غايات وأهداف بعيدة عن الحجج الروحية. كما أنه هناك حركات استنفدت أهدافها ( كما يقول ص61). فأدوات تنفيذ الاستراتيجيات في وقت السلم غيرها في وقت الحرب. ويضرب مثالا على ذلك بلجوء قواعد حزب الدعوة إلى البعث السوري للهرب من بطش صدام (ص٧٣). لقد كانت الأحزاب الدينية عرضة للانشطار والتشرذم. فالجهاد وجماعة التكفير والهجرة في مصر هما تطور جانبي من حزب الإخوان المسلمين (ص٧١) والذي شهد بدوره تنظيمات داخلية متحاربة. وهذا دليل قوي على نسبية المعرفة الدينية (ص٨٥). فهي ليست معرفة ميتة. ولكنها قابلة للنمو كما هي قابلة للانتكاس والرجوع. ولديها قدرات هائلة على حجب النص (ص٨٩). ويمكن القول إن القرأن الكريم ذاته هو حجاب لنصوص قبله، عمل على تفكيكها وتوجيه سهام النقد اللاذع لمكامن الضعف والأخطاء فيها (ص١٠٠). وهذا أول درس يبرر ضرورة التأويل وإعادة النظر بالمسلمات المتجمدة. فالنقد بمستوى أمر وجوب في الإسلام وهو ليس مستحبا فقط (ص١٠٢).
ولا يمكن أن ننكر التحيز (ص84). فأية قراءة لا تأتي من فراغ. ولكنها تحمل في ذاتها مبررات تعريفها.
لماذا هي موجودة أصلا. ولماذا يجب أن تقارب هذه المسألة وتتصدى لمهمة حمايتها من الذوبان أو الاندثار.
إن مشكلة الحركات الإسلامية أنه تقف خلفها دوافع دينية- سياسية (ص١٢٧). وإذا كانت السياسة هي المسؤولة عن الخلافات البينية والمواقف من الأنا والآخر والتكفير. فالدين مسؤول عن حقيقة المبايعة. والتحفيز على التضحية والمغالاة بها إلى درجة الانتحار (ص١٢٧).
ومن هنا نشأت ظاهرة الإرهاب الدولية بأبعادها المتعددة وما أحاط بها من هالة وصلت إلى درجة تحريض المخيال الشعبي على الإضافة والمبالغة حتى نشأ منها دين جديد (بتعبير صالح الطائي) أصبح بمثابة دين سماوي رابع. ظاهره الإسلام وباطنه التكفير والقتل. وغلافه شعار (الثورة المستمرة، ص١٢٩).
إن الإسلام السياسي بالنتيجة مشروع مختلف عليه، له الحق في تطبيق أدواته، ولكن ليس لديه الحق بالمصادرة على حرية الآخر المختلف عنه. وإن خضوعه لمنطق السياسة والارتباط في نفس الوقت برجل الدين حوله إلى حركات وشراذم متمردة تؤمن بالعنف والاستبداد وتقاطع الإرادات (ص١٤٤). وهذا يفرض عليه إجراء تحولات فكرية ليتجاوز اخفاقاته وكي لا يسقط في نفس الحفرة التي أودت بالفكر القومي وأوردته موارد التهلكة.
...................
* الغرباوي، ماجد، الحركات الإسلامية (قراءة نقدية في تجليات الوعي)، ٢٠١٥، ١٥٨ ص.