رأي
تبرز المنظومات الثقافية الفرعية، بعد مضي عقد من الزمن وأكثر على الاطاحة بنظام البعث، كإحدى أهم معوّقات المضي قدماً في بناء نموذج ديمقراطي يعتد به في العراق، ومن ثمّ، وضع أسس صحيحة لدولة المؤسسات التي تتجاوز فوضى الراهن من الواقعين السياسي والمجتمعي.
وعلى الرغم من تصدي المتخصصين في الشأنين، السياسي والاجتماعي، لمحاولة صياغة قراءة نهائية، حاسمة، بشأن معوقات التحوّل الآمن والمفضي الى دولة المؤسسات، والتي تشخّص أسباب الفوضى الراهنة، بجميع أشكالها، وتعيدها في الغالب الى عوامل داخلية (انقسام سياسي) أو عوامل خارجية (التدخل الاجنبي/ الارهاب)، فإن هذه القراءات، في الغالب، لا تغوص بعيداً عن لمس جوهر الأزمة الداخلية المتعلقة بالاختلافات والتباينات الثقافية في بنية المجتمع العراقي، التي لم تنشأ في ظروف صحيّة تجعل منها سمات وميزات، بل نشأت نتيجة تراكم السياسات الخاطئة للحكومات المتعاقبة على ادارة العراق.
وتقف التنشئة السياسية، كواحدة من بين أهم التباينات التي تحول دون استقرار التجربة الديمقراطية. فالاختلاف كبير وواسع في المرجعيات المسؤولة عن تغذية الافراد بالانماط السلوكية الاجتماعية التي تساعدهم في التعايش السليم فيما بينهم. ولعل هذه العملية الاجتماعية التي تبدأ من المحيط الأسري تستكمل من خلال مجموعة كبيرة من المؤسسات فيما بعد (الدولة)، حيث يقع على عاتق هذه المؤسسات وضع الاهداف الاساسية للمجتمع، والآليات والسبل الكفيلة بتحقيقها، وصولا الى تحقيق الانسجام بـين أبناء المجتمع، وبالتالي تعزيز التماسك والوحدة الوطنية.
وهنا، يمكن القول، إن التنشئة السياسية السليمة، تضمن في اي مجتمع، ترسيخ مفهوم المواطنة، الذي يتجاوز الهويات الفرعية بكل ما فيها من اختلافات دينية او طائفية او عرقية او اثنية، وذلك بوصف التنشئة الصحيحة تعزز العلاقة بين المواطن والدولة عبر بناء مجتمع واع لحقوقه من جهة، وقيام الدولة بواجباتها المناطة بها تجاه هذا المجتمع من جهة ثانية.
ولعل غياب هوية الدولة السليمة، وبالتالي، غياب التنشئة السياسية المطلوبة القائمة على تغذية جميع الأفراد بالشروط المعززة للمواطنة، فضلاً عن حالة الانفصال بين الجماعات المجتمعية والدولة، وتنوع المرجعيات الثقافية، أسهمت الى حد كبير في تغييب مفهوم المواطنة، وشتتت، في الوقت ذاته، القدرة على التمييز بين نموذج الدولة الصحيحة، ونموذج دولة الفوضى، وسوء التمييز هذا، هو ما يفسر انبراء البعض الى الدفاع، في احيان كثيرة، عن النظام السابق انطلاقاً من سوء الواقع الراهن، على عدّ أنهم لا يربطون، في الغالب، بين الاسباب والنتائج.
ان سوء التنشئة السياسية، او غيابها، يجعل الأفراد ينصاعون، رغماً عنهم في أحيان كثيرةـ الى تمثّل مرجعياتهم الثقافية والقيمية في التعامل مع النظام السياسي القائم، وفي ظل غياب برامج حقيقية مدروسة تعزز روح المواطنة، يبدو ان المجتمع العراقي سيظل أسير الهويات الجماعية المتصارعة.