ثقافة

تسعينيون

تسعينيون

معتز رشدي

  جئنا، نحن أبناء هذا الجيل المصلوب، على توهجه، بتقدمات الرماد، متأخرين عن كل شيء؛ جئنا إلى وطن تسربت منه بقايا عافيته في سنوات حصاره، فغادرت زرقتَه أجملُ الأشرعة. جئنا، متأخرين، إلى مناف تكرست فيها اسماء من غادروا، قبلنا، واستقرت، فيما بينهم، اعرافها وطرايقها.   كنا القادمين، المتأخرين، من كل- إلى كل مكان-، ما جئنا جماعة، يداً تشد عزم أختها، ولكن، محمولين، فرادى، في طائرات اللجوء! فنحن؛ أغنام عصر حديث؛ مسالخه، كوجبات طعام الشهيرات من عاهراته، في الطائرات. جئنا، بلا دعوة من قبيلة، أو حزب. هاربين بجلودنا من شهوات المسالخ، جئنا، وباسماء مجهولة، جل حملتها في سنوات تكوينهم الأولى، شعراء وفنانين ومخرجين و(كلاوجية)، وبين.. بين.   منا من أضاع أجمل ما فيه، لقاء أقبح ما في منفاه، ومنا من حافظ على اجمل ما فيه، وخسر اجمل ما في منفاه، منا من أضاع الطريق إلى نفسه، كحولا ومخدرات فمصحات.. منا من انتحر، من جُن، ومن ابتلعه عويله- فلم نعثر على أثر له!-، منا من عاد، بعد طول غياب، إلى وطن هرب منه، في صباه، فوجده،ماثلاً، أمامه، في منفاه، كابوساً يلده ليلُ الكحول في سرير بارد كثلاجة حفظ الموتى، أو جداراً تسقط ، منه، في النوم، على الرأس، جثث الأحبة في البلاد البعيدة!. عاد بعد طول غياب إلى بلادٍ، كانت.. كانت بلاده.   ولكنه- على أي حال- عاد، كما عاد، إليها، البريطانيون (الملاعين)، ومناضلو عقائد -زمهرير- البلاد، والمتهمون بعراقيتهم من التبعيات غير العربية.. عاد، لأن له، فيها- كما لسواه من خونتها، ولصوصها، وقواديها، وسدنتها، ومناضليها-، أم تنتظره، وأخت صغيرة (وجدها كبيرة!!!)، ومرآة توهم إنها ستعيد إليه صباه، كما تركه فيها!.   عاد، ليجد إنه جاء متأخراً- أيضاً- عن موعد، ضربه لها، مع سدنة أحط ما فيها، سيدٌ، أبيض، مُطاع، وقادمٌ مما وراء الحدود، أي من البلاد، الأجنبية، التي جاء، هارباً، من ثلاجة حفظ الموتى، فيها!.   وجد - أيضاً- ان الجلدة، المتبقية بين الكتف، والذراع المتدلية، منها، لجندي هارب، بالمتبقي من جسده، من معركة آكلةٍ.. شاربةٍ للبشر، هي المجاز الدقيق الوحيد لما تبقى بينه، وبين أصدقاء له، أعزاء، لم تمتهنهم، مثله، مهنة المنفى، وهي العلاقة، ذاتها، بين حاضره وماضيه.   إلى أين يغادر مرة أخرى؟.   وإلى أين يعود؟.     تورنتو 25-6-2016  

مقالات أخرى للكاتب