أعمدة رئيسية
هناك ما تعجز اللغة عن تدوينه او لفظه، نسغ غامض في الاعماق، يمكن وصفه والوقوف على آثاره في الاشياء، مثلا، ما يبعثر كلمات الشعراء على الورق هذه الايام، ما يجرد الحروف من اتزانها وما يرغم الافكار على الهروب بعيدا. الشعر قليل في كل حرب أهلية، وإنْ وجد فهو نزف لا يقتل ولا يتخثر. القصائد بين ساتريّ المعركة خيوط واهنة لطائرات ورقية باهتة التحليق، كما أن ما ينخر الاقلام اكثر من شعور بالفجيعة، واعمق من احساس بالخوف. ما يُنشف ريق الحبر اوجع من مرارة الفقدان، وافدح من خسارة الذاكرة. ما يخذل الاوراق اوسع من دم تحمله الشظايا، وابعد من استراحة الضوء الكئيب.
يعيش كاتب هذه المرحلة فوق طين لا يجف من التساؤلات التي تتردد في أقبية روحه الصمّاء، يتحدث في صمته ما لا يقال عمّا لا يكتمل معناه إلا بحصوله، حاضر هو ذيل للمستقبل، وغيب يرمي لنا بخطواته المطلسمة في طريق لا نملك غيره. الكاتب منكسر امام ورقته كزوج لا يشعر بالرغبة رغم صخب الدم في عروقه، نوم بعيون مفتوحة، وأيام تتكسر على أيام.
أحيانا ألحظ الغيب، مثلا، اشعر ان القيد الذي يسجن الشعر في يدي مرتبط بهويتي المتفحمة. مقبل أنا وعائلتي وأصدقائي بل حتى أجدادي والأماكن التي احب والذكريات المتاحة.. كلنا مقبلون على تقسيم الهوية او فقدان معناها، هكذا ترصدت لداخلي الملبد وتلقفت طرف الخيط هذا لأصف الشعر الآن.
في زمن الخنادق المتقابلة والمتوازية والمتعاكسة، في زمن البنادق المحشوة بالتاريخ والمعادن الرخيصة كغاياتها، في زمن الطريق الذي يتفرع إلى أكثر من بلد وهوية رغم أن الأرصفة متشابهة ووجوه الشحاذين متعانقة القسمات، في زمن الجروح التي تتحدث بعدد لغات الداخلين إليها.. والخارجين.
أعتصر لحظة الوضوح مراقبا دمعة لا تحمل من العين زيغها، ومشافها داخلي كمن يستدرج حيوانا من جحر، ما الذي سيأتي به المستقبل؟ دولتان؟ ثقافتان؟ قصيدتان؟ سؤالان قد يختلفا على اختيار الاجابة، تلك الاجابة التي لا تكفي، إذ أن ما لا يكفيه الدم سيتيه بحثا عن جوع يليق بشهوته.
نعم، أيدينا ترتجف مع الحرف أو من دونه، أوراقنا حائرة أمام وجوهنا الفارغة من الملامح، وهاجسنا يهمس في أذن غيابنا عن مصيرين لا يجمعهم الشعر ولا يسدّ غيابهما عن بعضهما وجودهما معا.