رأي

صناعة الشيطان

صناعة الشيطان

سلوى زكو

وكأن هؤلاء الدواعش هبطوا علينا من كوكب آخر. هم لا يشبهوننا ولا يشبهون المجتمعات التي جاؤوا منها، وهي مجتمعات تمتد على امتداد التنوع البشري، بدءا من مجتمعات متقدمة، توصف بأنها الأكثر رقيا وتحضرا، وانتهاء بسكنة الصحارى القاحلة آكلي الجراد وشاربي مياه الآبار المالحة. كل هؤلاء أصبحوا دواعش لكنهم لا يشبهون مجتمعاتهم التي خرجوا منها، لا في فكرهم ولا في ممارساتهم ولا حتى في هيئاتهم وأشكالهم.   من أين جاء كل هؤلاء؟ وكيف تجمعوا ليصبحوا قوة ضاربة تستدعي العالم أن يواجهها بقوة تضرب من الجو أشباحا تتنقل على الأرض وتتخفى في المدن والقرى والمزارع؟   لنتذكر معا صناعة القاعدة في أفغانستان بتخطيط أميركي صرف، وباعتراف الأميركيين أنفسهم، رافقه تمويل عربي سخي بالمال والبشر والسلاح.   صدرت صيحة من صحارى العرب وقفارهم الممتدة على ركن فسيح من خارطة العالم أن هبوا لنجدة إخوانكم المسلمين في أفغانستان وهم يقاومون الوجود السوفييتي الكافر. وفي ظل سيل من فتاوى شيوخ الفتنة تدفقت على أفغانستان حشود (المجاهدين) بالآلاف من وهابيين وسلفيين وإخوان مسلمين، وتدفقت معهم الهبات السخية لنقلهم وتسليحهم وإدامة عيشهم.   وتمدد شيطان القاعدة من أفغانستان إلى كل بقعة من بقاع العالم ليتحول إلى غول يستخدم لإخافة المجتمعات وحكامها وبرمجتهم وفقا لما هو مخطط لهم. لكن الغول تمرد فيما بعد على صانعيه بعد أن تضاربت المصالح وتداخلت فتلقى ضربات أضعفته وفتت تلاحمه السابق. هكذا بدأ نجم القاعدة يخبو فهل كانت داعش البديل الأكثر شراسة وايغالا في التشدد؟   سنعرف فيما بعد من صنع لنا شيطان داعش لكن ما هو واضح حتى اللحظة أن هذا الشيطان لم يخرج بولادة طبيعية من رحم المجتمعات التي ينتمي إليها أفراده، إنما هو مصنوع بأناة وصبر من جهة أو جهات ما قادرة على التخطيط لآماد طويلة قادمة من اجل إعادة تشكيل المشهد في بقاع عديدة من العالم وإعادة ترتيب موازين القوى النافذة المتصارعة فيما بينها على مناطق النفوذ والثروات والمواقع الاستراتيجية.   ولأن العراق هو الخاصرة الأضعف في جسد المنطقة، كان لابد وأن يصبح جاذبا لداعش كي تنطلق منه فيما بعد إلى تمدد جديد.   لم يكن سقوط الموصل بداية لدخول داعش إلى العراق، إنما كان اللقطة الأخيرة في مشهد عراقي طويل تم الإعداد له بصبر فريد، سياسي وفكري ومخابراتي وعسكري. سنكون سذجا لو صدقنا أن داعش فاجأت الجيش فانهار وترك لها الساحة بعد تآمر أو تخاذل عدد من قياداته. هذه مجرد تفصيلة صغيرة في مشهد طويل تم إعداد ساحته منذ سنوات. ولأن داعش تعتاش على الأزمات ولا يمكن أن تتمدد إلا في بيئة تضج بشكاوى لا حصر لها، كان لأزمة الموصل والأنبار وصلاح الدين وكل المحافظات والمناطق التي أصبحت تسمى بالمناطق السنية دورا في استغلال السخط والغضب واليأس من المخاطبات والمناشدات في أن تجد داعش لنفسها حواضن مجتمعية. ولأن الحواضن تكون دائما جزرا صغيرة وسط بحر واسع من أناس مدنيين عاديين، أصبح هؤلاء ضحايا صراع لا يد لهم فيه وتجدهم اليوم إما اسرى الحكم الداعشي او نازحين يفترشون أرض العراق الواسعة. كلما استطعت أن ترى تفاصيل المشهد ازدادت قدرتك على معالجته.

مقالات أخرى للكاتب