رأي
يقولون ان العافية درجات، ويبدو ان أمامنا المئات من الدرجات كي نصل الى مرحلة التعافي، والشاطر هو من يضع خطة لصعود السلالم كي لا يتعثر او يتدحرج هبوطا.
واضح أننا نقف اليوم على اعتاب مرحلة تصحيح اخطاء وخطايا ارتكبت فأودت بحياة مئات الآلاف من العراقيين وسممت حياة من بقي منهم. وهي مرحلة حتمية جاءت بعد ان سدت كل المنافذ وما عاد بإمكان عجلة الدولة ان تتحرك في اي اتجاه كان، فأصبحت مهمة انقاذ ما يمكن انقاذه حتمية. لكننا لا نعرف حتى الآن إن كانت هذه المرحلة ستفضي بنا الى مرحلة قادمة تضع اسسا جديدة لعمل الدولة ام انها مجرد ترقيع لواقع ما عاد ينفع معه اي ترقيع.
لو اردنا حقا ان نضع العراق على اعتاب التعافي، فلابد من الامساك بالحلقات الرئيسة التي أنهكت بنية الدولة، لأن الاندفاع العشوائي نحو تصحيح خطأ هنا وآخر هناك بلا خط عمل واضح لن يفعل شيئا غير ارباك المشهد المرتبك والملتبس أصلا.
ولأن الوضع الأمني المتدهور وضياع الأرض يتقدم على كل ما عداه، كان التوجه نحو معالجة هذا الملف مطلوبا بوصفه ضرورة آنية. ولا اعرف بالضبط ان كانت لدى حكومة العبادي خطة واضحة لمعالجة ازمة الجيش التي اضعفت معنويات المقاتلين في حرب شرسة ومصيرية. لكن كان الامساك بالحلقة الرئيسة في الملف، وهي معالجة رؤوس الفساد، سليما وأرسل اشارات واضحة للمقاتلين بأن تغييرا ما يجري لصالحهم. لكن إحالة عدد غير قليل من القيادات العسكرية الى التقاعد بدل المساءلة ارسل إشارة للفاسدين الآخرين من أن لا خطر عليهم، فالأمر في نهاية المطاف لن يتعدى الاحالة على التقاعد للتمتع بعد ذلك بالملايين التي نهبت من رواتب الجنود وصفقات بيع الأسلحة وفتح ممرات للارهابيين لقاء رشى ضخمة.
ومن المؤمل، لو سلمت النوايا، ان تفتح ملفات المساءلة في فترة لاحقة رغم الضغوط الهائلة التي تمارسها مافيات الاتجار بالبشر والأرض والسلاح من أجل أن يتوقف الأمر عند الاحالة على التقاعد.
وفي الآفة الأخرى التي تنخر في جسد الدولة، وهي الفساد، لابد ايضا من الامساك بالحلقة الرئيسة في هذا الملف. لن ينفع هنا العمل على محاربة كل فاسد، معروف او غير معروف، لأن ذلك سيقودنا الى متاهة لا منافذ للخروج منها. والحلقة الرئيسة هنا هي تلك المافيا الرهيبة ذات المصالح المترابطة التي تمسك بخيوط اللعبة وتدير امبراطورية المال والفساد والجريمة المنظمة. ان تفكيك عرى هذه المافيا وتقطيع أوصالها الى اجزاء صغيرة منعزلة هو الذي سيفقدها ميزة تبادل المنافع التي تعيش عليها.
ولأن الدولة التي تريد ان تحظى باحترام مواطنيها لا بدّ لها من ان ترتكز الى قضاء مستقل وعادل. ينبغي فتح ملف القضاء، وهو ملف شائك ومحزن اوصل العراقيين الى مرحلة عدم الاطمئنان للقضاء واللجوء الى سبل اخرى للتقاضي منها العرف العشائري. ومرة اخرى لن يجدي نفعا هنا التصدي لكل من خان ضميره القضائي لأنها ستكون متاهة اخرى. وماذا كنا نتوقع من قضاة تعجز الدولة عن حمايتهم فتتركهم فريسة لابتزاز مافيات الفساد والجريمة المنظمة؟
القضية هنا لا تتعلق بحالات فردية إنما بالنظام القضائي كله وبالرؤوس التي تديره. والدولة التي يشكو نظامها القضائي من انعدام العدالة لا ينبغي ان تتوقع من مواطنيها الاطمئنان لهذا النظام.
وتبقى العافية درجات.