رأي
عشرة أيام تفصلنا عن ذكرى وفاة يوسف الصائغ التاسعة والمحاكمة مستمرة، وحقيقة أن الرجل كان رمزا لكل من يريد شرعنة موقفه المهادن لنظام صدام على أنه سبيل حياة وأحيانا توحيد موقف ضد خطر عام ما زالت تتجسد يوما بعد يوم. بعضهم ذهب إلى أن خيانة الصائغ للشيوعيين سبقتها خيانة الشيوعيين لكل من لم تتيسر لهم فرصة الهرب أو لم يرغبوا بها من رفاق الداخل، وهكذا فالمقالات تتراكم في تجاذب مواقف الرجل السياسية منذ وفاته حتى قام بعضهم بجمعها تحت عنوان يحمل من الادانة للثقافة العراقية ما لم يفكر به الصائغ نفسه وهو "أخوة يوسف". لقد تضخم أمر الرجل حتى استقل عنه فبات لافتة لمآرب لا تنتهي أو لنقل انها تبدأ باستمرار، حديث عن خيانة الحزب الشيوعي له، وحديث عن خيانته لليسار العراقي، وحديث عن جمعه جمهوره ومجده ابان توليه شطرا من وزارة الثقافة، وحديث عن عدم اهتمام الثقافة العراقية بمنجزه بسبب التفاتات سياسية بحتة لا علاقة لها بالموهبة، وجدل عن موته في دمشق بعد تنكر الأقرب له والصراعات لا تنتهي.
أكثر ما يدهش في الأمر أن هناك من يقفز على حقائق أثبتها الصائغ بنفسه فيما كتب بوعي منه أو بدون وعي، وكأن القدر أراد للرجل موقف مالك بن الريب الارتكاسي فيما بعد، وكأنه تنبأ بما سيحدث حتى تشابهت مرحلة قطع الطريق في حياة بن الريب مع مرحلة المعارضة الشيوعية في حياة الصائغ وانتماء ابن الريب للجيش الاسلامي الفاتح مع انتماء الصائغ لنظام صدام الديكتاتوري. هكذا يضع الصائغ اسمه على خارطة الثقافة فيأتي أحدهم ليحركه ذات اليمين وذات الشمال تبعا لرغبته وحاجته رغم ان الرجل اعترف ورثى نفسه على طريقة ابن الريب حينما أماتت أفعى البعث روحه فقط. يتناكف خصماء الدهر (البعثيون والشيوعيون) حول الصائغ وهو الذي استفاد من كليهما بطريقة فجّة وبرضا كل من عاصره وسكت عنه. لقد كانت الجوائز حجر زاوية في تجربة الصائغ الأدبية، فلم يؤرشف روائيا إلا بجائزة، ولم يعمّد مسرحيا إلا بجائزة، وكأن المنصات تتقاذفه وباقات الورد التكريمية تتحلق حول خطواته. كيف إذن اصبح الصائغ مهملا ثقافيا وقد تصدر أربعة عقود من حياة العراق الثقافية شيوعيا وبعثيا؟ كيف أصبح عرضة لخيانة الآخرين له وهو الذي بدأ يبرر لخيانته قبل عقد منها؟ كيف مات منبوذا ومريدوه يتحلقون من حوله؟
الشعر، ذلك السطر المفضض بالكلمات، القدرة التخييلية العصية على المباشرين وتجار التقنيات، أمر لم يناقش في تجربة الصائغ رغم أهميتها بالنسبة له قبل أن تكون مهمة بالنسبة للآخرين، ولا أتبنى هنا رأيا محددا تجاهه، ولكن صغر هذا المبحث في تجربته يذهل المتتبع، وليت قرّاء الصائغ انتبهوا إلى ما تخفيه أسطره من شرعنة للخيانة والدكتاتورية قبل مدحها بما ليس فيها حتى على مستوى الظاهر.