ثقافة

أيةُ دولة بلا حياة روحية وقيم أخلاقية؟ [1]

أيةُ دولة بلا حياة روحية وقيم أخلاقية؟ [1]

د. عبدالجبار الرفاعي

بعد إعصار "إسلام داعش"، وتهديده للسلم العالمي، ودعوته وممارسته لإحياء ما نسخه التاريخ من الأحكام، مثل ممارسته "إحياء الرقّ قبل قيام الساعة"، حسبما أعلن عنه على غلاف عدد أكتوبر 2014، من نشرته "دابق"، وما فعله داعش من سبي واسترقاق لنساء الإيزيديين في سنجار، مبررا ذلك في أنه يحرص على تطبيق أحكام الفقهاء الخاصة بالمشركين، كما جاء في بيانه: (بعد الاستيلاء على سنجار، كُلف طلبة العلم الشرعي في الدولة الإسلامية بالقيام بالبحث في أمر الإيزيديين ليتم تحديد هل يجب معاملتهم كطائفةٍ شركيةٍ في الأصل أم أنها جماعةٌ من المسلمين الذين ارتدّوا، فتبين أن الأصل الواضح لهذا الدين وُجد في المجوسية في بلاد فارس القديمة، لكن دخلت فيه معتقدات من الصابئة، واليهودية، والمسيحية. ووفقًا لذلك، تعاملت الدولة الإسلامية مع هذه الطائفة، كما بين أغلب الفقهاء، كتعاملها مع المشركين)!   هل يمكن أن يشكك أحد في المأزق والأزمة العميقة للتفكير الديني في الاسلام، واننا اليوم في مفترق طرق؟!   وكيف اننا جميعا نهرب من تسمية الأشياء بأسمائها، ونلجأ لحيل، تتكتم على ما تضج به المدونة الكلامية والفقهية من آراء وأحكام: المشركين، أهل الذمة، الرق، الجزية، الردة..الخ. وتكفير الفلاسفة وذوي التفكير الحر، وأتباع الفرق والمذاهب، فقد كفّر ابن تيمية "الذي يمثل تراثه منهلا للجماعات السلفية، ومنها أخيرا داعش"، كفّر: الفلاسفة، والمتصوفة، والجهمية، والباطنية، والاسماعيلية، والنصيرية، والامامية الإثني عشرية، والقدرية . ولم ينفرد ابن تيمية بذلك، بل نعثر على غير واحد من الفقهاء من يفتي بكفر هؤلاء، وربما غيرهم، خاصة تلامذة مدرسته، ومن ترسموا منهجه في التفكير.   ولم يزل تراثه وسواه حاضرا فاعلا مؤثرا، عبر دراسته وتدريسه، وتبني آثاره في البحث والكتابة والمناظرة، واتخاذه مرجعية للتقليد في التدين والسلوك والتعامل مع الآخر والعيش. فلا تغيب آثاره عن أية مدرسة أو معهد للشريعة والدراسات الاسلامية، سواء كان تقليديا أو حديثا. كما تخصصت عشرات القنوات الفضائية بتقديم فتاواه ومقولاته، مضافا الى حضوره المكثف في خطب الجمعة التي تذاع من عشرات الآلاف من المنابر في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وتمحور جهود مراكز بحوث ودوريات ودور نشر عديدة على نشر مفاهيمه والتبشير بفتاواه والدعوة الى معتقداته.   ولم يجرؤ معظم الباحثين في الاسلام المعاصر بالإشارة الى ما ينبعث من آثاره من تكفير وأوامر بقتل المختلف عقائديا وفكريا، والتنبيه الى أن تراثه هو منجم معظم ما تشبعت به أدبيات الجماعات الاسلامية من السموم. بل تحمس بعض المفكرين في بلادنا العربية بالإعلان عن ضرورة العودة اليه، بوصفه أهم مفكر وفقيه ظهر في تاريخ الإسلام، وأية محاولة تقفز عليه أو تتخطاه، انما تغامر بفقدانها أصالتها وافتقارها لتمثيل الأمة والإسلام وحضارته.كما نجد مؤسسات ومراكز أبحاث، خلعت على نفسها شعار التجديد، وأسلمة المعارف والعلوم، تهتم بنشر مؤلفات ورسائل جامعية وأبحاث تعمل على إنشاء مفاهيم لتجديد التفكير الديني في الاسلام تتوكأ على مقولاته، بينما تتكتم ولا تعلن عن تلك المرتكزات والمقولات التي تصدر عنها وتنبثق منها الكثير من فتاوى الذبح والاسترقاق والسبي لداعش وشقيقاتها المعلنات والمضمرات.   وسيدرك الجميع متأخرين؛ ان هذه المقولات الاعتقادية والفتاوى الفقهية، التي تشبعت بها عقول عدة أجيال في مجتمعاتنا، وتفشت في المقررات الدراسية في كافة المراحل، وطغت في سلوك السلفيين، انها ستلتهم الجميع في خاتمة المطاف.   من المؤسف إن بعض السلطات تدعم مراكز دراسات ومؤتمرات وحلقات نقاشية ودوريات وصحف تدعو للدولة الوطنية الحديثة، والحوار والتسامح والتعايش، ومكافحة الارهاب، لكنها لا تريد أن تفتح الجراح العميقة، وتكشف عن مخزون العنف والكراهية، وكل ما هو ضد للحوار والتعايش والتسامح في مدونة الكلام والفقه الموروث.   المشكلة إن التربية على هذا اللون من التفكير في النظام التعليمي، والتبشير به في وسائل الإعلام والفضائيات، ومنابر المساجد، تفضي الى ذبول الحياة الروحية، وهشاشة الحياة الأخلاقية، ذلك أنه كلما اتسعت مساحة العقل السلفي ضاق فضاء الروح واختنق القلب. إذ كيف يستطيع قلب مسكون بالرعب من الله، والخشية من بطشه، والقلق من المصير الأخروي لعذابه؛ أن يكون محبا لله، متيما بوصاله، ملتزما بقيمه وبالمؤشرات الأخلاقية والروحية لأنبيائه ورسله!   مضافا الى أن سيادة هذا العقل يقوّض مفهوم دولة المواطنة الحديثة، وينفي مشروعية أصولها الدستورية، ويهشم برامجها التنموية. بوصف وظيفة دولة الخلافة في منطق العقل السلفي هي خدمة الله وليس خدمة الانسان، بينما مفهوم الدولة الحديثة يتأسس على ان وظيفتها تتمحور على خدمة الانسان، وتأمين كافة متطلبات حياته المادية وغيرها.   مع تفشي ثقافة التكفير في حياتنا، وتشبع وعي الناشئة بها، وترسبها في طبقات اللاوعي العميقة في شخصية أبنائنا، لا يمكننا أبدا بناء ميثاق للمواطنة؛ يكون النصاب فيه هو الانتماء للوطن فقط، والمساواة في الحقوق والواجبات. كيف ينسجم مفهوم المواطنة، مع مقولات وفتاوى مترسبة في تكويننا منذ الطفولة، تنص على ان الشركاء في الوطن، ليسوا سوى مرتدين ومشركين ونجسين وأهل ذمة، أو كفارا، مثل اليزيديين في العراق، لا خيار لهم، الاّ الإسلام أو القتل! وأية حياة روحية تستنبت وتنمو وتزدهر في سياق الكراهية والتعصب ونفي الآخر!..وكيف تتشكل منظومات القيم الأخلاقية في هذه المناخات الملعونة! وهل نستطيع بناء دولة مواطنة حديثة من دون حياة روحية أصيلة، وحياة أخلاقية لا تفتك بها السموم!   المأزق يكمن في الأسس ومناهج التفكير والأدوات المتوارثة المنتِجة للتفكير الديني في الإسلام، التي يكرّر العقلُ الإسلامي فيها ذاتَه باستمرار، ولا يني ينسخ ماقاله الأوائل، ولم يخرج من نسَجَ على منوالهم واقتفى آثارهم عن تلك القواعد والآراء في الغالب، إلاّ بحدود بيان القاعدة وشرح العبارة وشرح شرحها والتعليق عليها وتوضيح المراد واستخلاص المضمون.   ينبغي الاّ نفتقر للحسّ التاريخي في دراسة الموروث الديني، ولابد من الخروج عن المناهج والأسس والأدوات الموروثة لهذا التفكير، بوصفها قيودا، تعطّل العقلَ، وتسجن عمليةَ التفكير الديني في مدارات مغلقة، لا تكف عن التكرار والاجترار، تبدأ من حيث تنتهي، وتنتهي من حيث تبدأ. تبدأ من أصول الشافعي ولاهوت الأشعري لتنتهي بهما، وتنتهي بهما لتبدأ منهما...وهكذا.   نطمح بمرافعة من نوعٍ مغاير لمحاججات المتكلمين القدماء، لا تهدف هذه المرافعة الى تدوين ميثاق اعتقادي جديد، وانما تسعى لخلاصنا من شباك عقل الأسلاف، ومدارات تفكيرهم المحدودة بالفضاء المعرفي والمجال الدلالي لعصرهم.   من الضروري مساءلة المسلمات الموروثة الراسخة، في المنطق وعلم الكلام وأصول الفقه وعلوم القرآن والتفسير..وغيرها، وكل تلك الأسس والمرتكزات الراقدة في الطبقة التحتية لبنية المعارف الإسلامية، والمولِّدة للتفكير الديني في الإسلام، عبر اشتغالها على توجيه دلالات النصوص، في سياق منطقها الذي يفضي الى معنى محدد، يغدو هو الشريعة وأحكامها، وإن رفضه يعني رفضا للشريعة الإلهية. وهي لا تني تكرر هذا المعنى، وتعيد صياغته بعبارات بديلة، لكن المضمون يمكث على الدوام كما هو، مهما تقادم الزمان.   وكأنها بمثابة قوالب ثابتة يتشكل مدلول النص تبعا لها، فكما يأخذ الماء عادة شكل ولون الوعاء الذي يكون فيه، ولا يختلف لون وشكل الماء عن لون وشكل الإناء، هكذا النصوص توجه دلالاتها على الدوام أدوات ومناهج النظر التي تستنبط منها الأحكام، أي اننا مهما كررنا استعمال تلك القوالب ننتهي الى نتائج متفقة مضمونا وكيفاً، وإن اختلفت في صياغاتها وتفاصيلها وأسلوب التعبير عنها.     [1] ملخص ورقة قدمها د. عبدالجبار الرفاعي، في "المؤتمر الدولي حول الأديان والقيم السياسية"، الذي نظمته "مؤسّسة أديان بالشراكة مع مؤسسة الأديان للسلام ومؤسسة كونراد أدناور للدراسات"، في جبيل- لبنان. بتاريخ 26 -28 تشرين الثاني 2014.    

مقالات أخرى للكاتب