رأي
نادرا ما يجتمع عراقي مع أخر في حديث إلا وكان حديثهما عن الفساد الذي نخر العراق كما تنخر السوسة قلب النخلة, وكثيرا ما نرى اليوم شتى أنواع الاحتقان الشعبي والتذمر والهياج الجماهيري و بمختلف طرق التعبير واحتجاجات ما فتئت تتعاظم وتكبر يوما بعد يوم وأحاديث بصوت عال عن هذه الآفة الناعمة وتشخيص رعاتها من مسؤولي الصدفة الذين جمعهم المحتل بكل عناية من مزابل المهاجر وجاء بهم ليفتكوا ببلد قل نظيره بما يملك من الخيرات والنعم التي لا تنضب دون أن تجد تلك الاحتجاجات أذانا صاغية تسمع ما يجري أو أعين مبصرة ترى ما يحدث.
لا شك أن الفساد وبكل أشكاله، سواء أكان في سلوك المسؤول أم المأمور، هو أم الآفات المجتمعية وهو انتهاك صارخ لكل القيم, السماوية وغير السماوية، وكلما علت مصادره أي صدر من مراكز عليا في الدولة ، كلما اشتد وقعه على المجتمع، فارتفاع المصدر يصاحبه صعوبة المتابعة خصوصا عندما تحيط به شبكة عنكبوتية متينة تحميه من الشعب من جهة ومن أعدائه ممن هم على شاكلته من جهة أخرى, ولهذا انتشرت أفة الفساد في مجتمعنا كما تنتشر النار في الهشيم، فوصل الحال بالإنسان الى فقدان الأخلاق والمبادئ والقيم بل حتى الإنسانية التي ينتمي لها، حتى تصدع البنيان وأنهار.
إن الفساد في بلدنا وللأسف قد فاق حدود الوصف بل تحول إلى ثقافة مجتمعية يتبجح المسؤول في الحديث عنها والاعتراف بها علنا وعبر وسائل الإعلام دون أن يردعه رادع رغم أن ذلك يعد بنظر القانون اعترافا بالجريمة النكراء وهو سيد الأدلة في الإدانة, بل أصبح الكل يلوح بما في جعبته ضد الآخر من ملفات الفساد التي لو تم كشفها في ظل قضاء عادل لتهرأ حبل المشنقة من كثرة الاستخدام, لكن الجميع يستخدمها ضد الآخر لا ليحاسبه وفقا لعدالة السماء والقانون وإنما كي يبعده عن طريق فساده لينعم بما يحصل عليه من امتيازات و مناصب وأموال السحت الحرام.
أي قذارة هذه وأي وقاحة تلك, حين يتسلق المرء على أكتاف المساكين ويستحوذ على مراكز النفوذ والمسؤولية العامة، وحين تتغلب الأنا والجشع على طباع الإنسانية يتحول الأمر شيئا فشيئا إلى وسيلة للاستحواذ والعمل غير المشروع والنفوذ اللامتناهي، وإذا ما أضيف لذلك عامل الشعور الأكيد بضعف الدولة ، فسيتحول عندها الفاسد إلى سارق علني لمصادر الرزق و مستعبد للناس ومتربص بكرامتهم وبحريتهم، وما من فساد فتاك كذلك الذي يحتكر فيه شخص ما، أو لوبي ما، أيا كان موقعه أو مكانته، مقومات اقتصاد الدولة، عندها سوف يصاب بجنون التصدي لضربات الأعداء الفعلية والمفترضة والتحصين منها بأي ثمن, وهذا الشعور ما هو إلا مشكلة نفسية تلازم كل من يسلك هذا الطريق للوصول لغاياته الدنيئة، يتزامن ذلك مع تقريب المتملقين و الانتهازيين والطفيليين ممن يواليه ويحميه من أعدائه والذين سيصبحون بالنسبة له كعصا سليمان التي يتكأ عليها وإن كان جسدا خاويا, وكلما ازداد هؤلاء تملقا ونفاقا له، كلما ازدادوا حظوة وارتقاء لديه، ويتبعهم في ذلك جيش من السذج والبسطاء، وهم الفئة المهمشة في المجتمع ليصبح الأمر مخاضا يسيرا وليس عسيرا لولادة حاشية من ذوي النفوس الضعيفة والضمائر الميتة التي تحجبه عن الناس ليخلو لها الجو لتعيث فسادا هي الأخرى.
وهكذا، حين تسيطر زمرة من المارقين الأوغاد والرعاع على منابع الاقتصاد، ستكشر عن أنيابها القذرة ، وسوف تتملكها رغبات شاذة تمعن معها في أذى الآخرين من المساكين الذين لا حول لهم ولا قوة، وستتحول إلى وحوش بشرية تسعى خلف غرائزها الشاذة.
نحن اليوم عند مفترق طرق لم تمر به أمة من قبل في تاريخ العالم الحديث خصوصا بهذه الفترة الزمنية التي أعقبت احتلال العراق, فالدول التي مرت بمثل ظروفنا أو أقسى زادتها قسوة الظروف إيمانا بالتجديد وبناء مدنيات رصينة أصبحت مثلا للعالم أجمع, فاليابان وألمانيا والصين وكوريا الجنوبية ودول الاتحاد السوفيتي السابق زادتها الحروب المدمرة والتفكيك إصرارا على المضي قدما نحو التغيير الايجابي وأعادت بناء بلدانها في أزمان قياسية إذا ما قورنت بحجم الدمار الذي لحق بمنشاتها والموت الذي حل بشعوبها.
من المفترض أن تكون نهاية حرب القضاء على داعش وتحرير الموصل الحافز الأول لبناء بلد مدمر وأن تستغل الدولة هذا الوقت للقضاء على سوسة الفساد ومتابعة الفاسدين الذين استغلوا انشغالها في تلك الحرب الضروس وأن تكون اللبنة الأساسية لبناء دولة متينة تفصل فيها الدين عن الدولة لحفظ هيبة الدولة الذي تمرغ بالوحل واحترام الدين الذي تشرذم وأصبح فرقا متناحرة على السلطة في الوقت الذي يجب أن يكون الأداة الموجهة والمقومة لأخلاق وسلوك الناس.
المصيبة هي إن الانبطاحيين والانتهازيين الذين كانوا يختبئون في جحورهم سينهضون من انبطاحهم وسيجلسون في الصفوف الأولى وسيقصون علينا قصص البطولة (الدونكيشوتية) التي ألفوها وصدقوها وفرضوها على الجمهور المسكين وسوف (يحوسمون) كل الحقوق والامتيازات التي ضحى من أجلها الآخرون من (أولاد الخايبة) مثلما فعلوها عند دخول المحتل وأصبحوا أصحاب المظلومية وكأنهم كانوا يقاتلون مع الحسين في معركة الطف.