رأي
ما ينطبق على الفيزياء والكيمياء، لا ينطبق على الحياة الإنسانية، على السلوك الاجتماعي، فليست هناك قوانين ثابتة تحكم الأشياء، إلا التغيير المستمر، والفرد بطبعه، ينزع الى التغيير، وقد يخضع الى ما يمليه عليه هذا التغيير أحياناً، فهو الضرورة التي لابدّ من الاستجابة لها، وإلا، وُصم الفرد بالتخلف، والرجعية، والتقهقر. ولولا هذه السمة الإنسانية الراسخة في طبائع المجتمعات، ما تغير شيء منذ بدء الخليقة، حتى يومنا هذا، ولأصبحت الحياة راكدة، مملة، بلا نكهة ولا طعم.
ولكن، هل ننصاع كلنا الى هذه الحركة؟ هل هناك من لا يسير على وفق هذه المعادلة؟ هل هناك من يختار أن يكون صاحب المبادرة بإحداث هذا التغيير، نعم، بالتأكيد هناك مثل هؤلاء، وهم شرارة انطلاق ذلك التغيير، وعلى الرغم من اختلاف تسمياتهم، والظروف التي جاءت بهم، فالكهّان، والفلاسفة، والأنبياء، والعلماء، والمفكرون، والأدباء، وغيرهم، خرجوا من الأطر الروتينية، واللحظات التاريخية التي تحكمهم وتحكم مجتمعاتهم، ليقودوا ثوراتهم التي أحدثت انقلابات جذرية في بنى تلك المجتمعات، روحياً، وقيمياً، ودينياً، وثقافياً، وعلمياً، وانطلقوا بتلك المجتمعات الى آفاق أرحب مما كانت عليه.
إزاء هؤلاء، هناك من الأفراد من لا يستسلم لأي نوع من التغيير، فهم ينظرون دوماً الى كل ما يحيط بهم بشكل مختلف عما ينظر اليه الآخرون، وهم هنا ايضاً، يحملون مهارات وقدرات وقابليات ذهنية وعقلية ونفسية، قد لا يحملها المحيطون بهم، لذا فهم يكسرون القواعد واللوائح والأطر التي تقيد السلوك العام أحياناً، او المألوف في التفكير، او الابداع، او المعتاد واليومي، ليس بدعوى الرغبة في الاختلاف والمغايرة، او بدعوى عرض ذواتهم على الآخرين، او الاستعراض، او هتك القيمة السائدة، بل لايصال افكارهم بشكل يسمح بفتح حوار فكري او ذهني او نظري، وغالبا ما يتهم هؤلاء بكونهم عبثيين او فوضويين.
قد يكتسب العبث، وحتى الفوضى هنا، قيمة ما، بكونه يحمل معنى جديداً، او بكونه يقصي الراكد، والمهترئ من القيم، او بكونه يجترح أسلوباً جديداً في الحياة، ولا يكف هؤلاء من طرق باب الفكرة، سعيا الى الاقناع، لكنهم مع ذلك، لا يحزنون، ولا يستاؤون، ولا تفتر همتهم، وقد لا يجدون من يستمع اليهم، في اي زمن، فيموتون حاملين همّ تغيير السائد، والثورة على الراهن.
..........
ملحوظة: قد يتساءل قارئ هذه الكلمات، عن جدوى وسبب "دوخة الراس" هذه، وبكلمات بسيطة، سأجيب عن هذا التساؤل: "في حياتنا اليومية، كثيرون، يعتقدون او يوهمون انفسهم بأنهم فوضويون وعبثيون ووجوديون، من دون ان يكلفوا انفسهم يوما أن يقرؤوا معنى هذه المفردات، الا أنهم يتبجحون دوما بأنهم لا يحترمون اية قيمة، مهما كانت مقدسة بالنسبة للآخرين، ولا يأبهون لأية قيمة اجتماعية، ظنا منهم أنهم بهذا سيحظون بتقدير او احترام الآخرين، من غير أن يعلموا أنهم موصومون بالعبث غير المجدي، وغارقون في الفوضى غير الخلاقة".