رأي
تخبرنا ملحمة كلكامش بمرحلتين في حياة كلكامش؛ الأولى مذمومة والثانية ممدوحة. الأولى كانت شرا والثانية خيرا. شر الأولى نابع من مرحلة عدم التفكير، اذا استعرنا من حنا ارندت تعبيرها، وعدم التفكير عندنا مقرون بالانهمام بالسعي لتأمين ملذات الذات، لأن الشهوة واشباعها، عندنا، لا تمت الى عملية التفكير بصلة، عملا بالثنائية المشهورة الروح والبدن، والطهارة والرجس.. الخ. ابن الآلهة كلكامش كان في المرحلة الأولى، كما تخبرنا الملحمة، ميالا الى اشباع نزواته، فهو لم يدع عذراء لأمها ولا ولدا لأبيه، ولكنه كان جميلا وسعيدا.. جماله وسعاداته لم يشفعا عند الآلهة، فقررت معاقبته بناء على شكوى الأهالي، وصادف أن تكون العقوبة أن يتذوق طعم الحزن الأبدي.
ورغم ما يشاع بأن الحزن ان هو إلا حالة انفعال، شأنه شأن اللذة! إلا انه يمكن اعتباره التمهيد لحالة التغيير، في الأقل بتقدير الآلهة، إذ برزت فكرة البكاء بوصفها لحظة تشفي الآلهة بسعادة كلكامش.
نعم، لم لا، فهو لابد من ان ينال العدالة، ولم العدالة، أ لأنها السياق العام؟ أ هي ما يجعل الجميع راضيا؟ نحن نبكي العدالة، ونحزن من أجلها، وهي ما يجعلنا جميعا في رضا عام، وما الرضا العام.. هو ان يقبل الجميع بالسائد ويتقبله، حتى لو كان ظلما في بعض الأحايين. أليست هذه مغالطة ورطينة فلسفية أخرى نريد تجنبها هنا؟
المعادلة إذن: غياب العدالة يؤدي الى الحزن، ما يعني ان الحزن جيد، وجودته تأتي في سياقين؛ الأول انه يمكن ان يكون قوة تدمير، والثاني ان يكون قوة تطهير، وعلى النبرة نفسها فإن الحزين إما ان ينتكس او يرتكز.. وما أريد لكلكامش هو الانتكاس، لكنه تحول الى فعل الارتكاز الى التفكير في المصير فانتصر، وبدأ مغامرة التفكير، لكن بعد أن يمر بكرنفالات الحزن والعويل والبكاء.
العويل والبكاء اذن احتفال بالعجز وبغياب العدالة. هو احتجاج ناعم ضد ما لا بد ان يكون. نحن نجحنا في تحويل الحزن الى مؤسسة وخطاب عام، وربما الى هوية احيانا، ولماذا هوية؟ لأننا نعد من لا يشاركنا حزننا ليس منا، وأحيانا عدوا لنا.
الغريب اننا ننشد التطهير في الحزن لكن بأدوات التدمير. حتى الآن ما زلنا في دائرة العويل التي غادرها كلكامش بالارتكاز عليها، اشتباها منا بفضيلة البكاء او التباكي، وهي مرحلة انتقالية بين البداية والنهاية.. تطهير الجسد من الذنوب عبر محترف بكائي طلق، بعدها لنفكر ونطرح الأسئلة التي يكرهها بائعو الاحزان وعطارو الدموع في مهرجانات البكاء الأممي.
الغريب الآخر اننا نقف على تخوم البكاء فقط ولا نجرؤ على الخوض في تفاصيل السؤال، وهو لحظة البداية، والأغرب من كل ذلك اننا، فيما يبدو، سعداء في حزننا الذي نستعرضه، كعارضات الأزياء، أمام وسائل الاعلام بوصفنا أمة الأحزان الكبرى، كيف لا ونحن نأكل ونشرب في ظلالها، ونصدرها للعالم، ونصرف ميزانياتنا، ونعطل المدارس والجامعات، ونثبتها في دساتيرنا حقا سياسيا يسبق حقوق البشر والزرع والحرث والنسل.
نحن معشر المحزونين، أفواج العتمة، سرنا في ليل طويل ولم نصل الى ما وصل اليه كلكامش، جد اوروك العتيد، مناطق اسئلة المصير والعدالة، والعدل أساس الملك، ويبدو أن هذا الأساس لا أساس له، مثل أصدقائنا الفضائيين، إلا في ملاحمنا وأناشيدنا الدينية.