رأي

كوسرت رسول وشيركو بيكس

كوسرت رسول وشيركو بيكس

علي المدن

 

قرأت بيان نائب الأمين العام للاتحاد الوطني الكردستاني "كوسرت رسول" الذي أصدره بعد دخول القوات العراقية الاتحادية الى كركوك وقد لاحظت فيه أمورا كثيرة؛ منها:

 

الأول: يبدو أن السيد كوسرت مقتنع تماما بفكرة "حدود الدم" لأنه لا يتردد في عد كركوك والمناطق الأخرى التي تمت السيطرة عليها من قبل السيد مسعود في 2014 مناطق "كردستانية"! دون أن يعلق الأمر لا على شرعية دستورية للدولة العراقية ولا على مفاوضات سياسية وإدارية ولا غير ذلك! بل هي عنده مناطق كردستانية بلا شك ولا جدال ولا نقاش ولا مراجعة.

 

الثاني: أن السيد كوسرت لا يخفي تصنيفه دخول القوات الاتحادية إلى كركوك وغيرها من المناطق التي سيطر السيد مسعود عليها بأنها قوات "مهاجمة" و "معتدية"؛ بل ولا يتورع في اتهامها وقذفها بكل جريرة من قتلٍ جماعي وتشريدٍ ونهبٍ وحرقٍ حتى بلغ بِه الاسراف حداً نعت ما قامت به بأنه: أنفال أخرى!! وكأنه يتحدث في ذلك عن جماعة "بوكو حرام" وليس عن انتشارٍ لقوات الشرعية الاتحادية غطت وسائل اعلام وقائعها ورحبت أكثر عواصم العالم المهمة بها!!

 

الثالث: هناك غياب تام وكامل لأي فكرة لها علاقة بالشراكة السياسية والانتماء لبلد واحد في خطاب السيد كوسرت!! وكأن السيد كوسرت يتحدث عن بلد غير العراق، فيه دستور وعملية سياسية ونظام ديمقراطي برلماني اتحادي لم يمر الا 14 عاما على التصويت على مفرداته والانخراط الطوعي فيه وتقاسم ثرواته وخيراته!! يخيل لقارئ بيان السيد كوسرت وكأن قائد ثوري يعيش في بداية القرن العشرين حيث بدأنا توا تشكيل الدول ورسم حدودها!! فليس بيانه مجرد خطاب انفصالي فقط وإنما هو أدلوجةُ قطيعةٍ جذرية بين أمتين وشعبين ودولتين ليس بينهما أيُّ رابطٍ على الإطلاق!!

 

الرابع: السيد كوسرت يعلق أهمية كبيرة على محاربة داعش كركيزة يمكن ان يتوقع من العالم كله دعما كبيرا له في انفصاله عن العراق! خطاب المديونية العالمية هذا يجب أن يفصح عن نفسه - بحسب قناعات السيد كوسرت - عبر الاصغاء لنداء المشاعر الانفصالية واحترام الارادة السياسية بتشكيل دولة جديدة في الشرق الأوسط؛ ويظهر أنه أصيب بخيبة أمل عاصفة حين لم يفصح له العالم عن ذلك أو يستجب لقناعاته.

 

إن هذه النقاط الأربع تجعل من السيد كوسرت أكثر بكثير جدا من أن يكون مجرد "قائد محبط"! بل هذه النقاط تبين عمق أزمة التعاطي مع الإيديولوجيا السياسية التي يُؤْمِن بها السيد كوسرت وجميع المنضمين إلى هذا الخطاب الذي أدلى به كوسرت نيابة عنهم جميعا ولا سيما السيد مسعود برزاني!!

 

إنني بالحقيقة، وتبعا لما اوضحت أعلاه من فهم خطاب السيد كوسرت، لا أعرف شكل "الحكمة" ولا نوعها ولا آليات تنفذيها في التعامل مع هذا الخطاب وأصحابه! صحيح أنني لا أفكر بتاتا بالعنف كحل مع هذا الخطاب، ولكني لا أستوعب حقا كيف يمكن الجمع بين رؤية دخول القوات الاتحادية الى كركوك وغيرها من المناطق التي سيطر عليها السيد مسعود في خطته لحدود الدم "رجوعا للشرعية إلى كركوك" وبين خطاب عدواني انفصالي قطيعي (= من قطيعة) كما عبر عنه خطاب السيد كوسرت ومن يقف وراءه؟! لا شك أن الدولة العراقية في مأزق أمام الأحداث الجارية ولكن التحدي اليوم ليس في وجود "الادارة الشفافة والمتفهمة"، مع أن هذا تحدٍ دائم لكل حكومة في دولةٍ كالعراق، وإنما في مدى كون هذه الإدارة تمثل حقا مخرجا من الأزمة في ظل خطاب لا يتشارك مع هذه "الدولة" أي قاسم مشترك!! ويأخذ على عاتقه بكل جد وحماس وثورية وعاطفة تكريس هذه القطيعة وتجذيرها بكل السبل وشتى الطرق ؟!

 

إن الحديث عن الشعوب يختلف عن الحديث عن خطابات الشركاء السياسيين وأجندتهم. الشعوب تحترم علي أية حال، وفِي جميع الظروف، وبكل الاعتبارات. أما الخطابات والإيديولوجيات، والأداء والسلوك والأجندة، فهي من توضع تحت مشرط التساؤل والمراجعة والتحليل. كلامي ليس عن الجانب الأول (وقد أظهرت في الأيام الماضية رأيي بمشاهد النزوح الجماعي من كركوك) بل عن الثاني، وإذا كان الجانب الأول سوسيولوجياً فإن الثاني سياسي وقانوني ودستوري وثقافي.

 

قد يكون الاحباط والحزن، وفِي هذه اللحظة تحديدا، واقعين اجتماعيين لما يشعر به الكرد في كردستان العراق، مع علمي بأن هذان الوصفين لا يعبران كفاية عما يجري في الإقليم من مشاعر الكراهية والغضب، ولكنهما على أية حال ليسا الوصفين المناسبين لتحليل المشهد سياسيا.

 

واجبات الدولة العراقية كثيرة وكبيرة تجاه مواطنيها كافة، ليس في ذلك شك، ولكن المثير للاستغراب أن يمسي فريقٌ سياسي جزءا من أحزاب هذه "الدولة العراقية"، فريقٌ له أعضاؤه في البرلمان والحكومة، فريقٌ يستلم لسنوات حصته من ميزانية الدولة ذاتها، ثم يصبح فريقا آخر لا يمت لنفس هذه الدولة وتاريخها بصلة!! ولا ينتمي لها بأي شكل من الأشكال، بل يتبنى ويصرح بالقطيعة المطلقة النهائية الحاسمة مع من يعتبرهم حتى البارحة شركاءه في الوطن!

 

عن هذا الوضع الأخير أتحدث وبه اهتم في تحليلي لبيان كوسرت رسول ومن يصطف معه، وهذا ليس حديثا عن الشعوب واحترامها وكرامتها، ولا عن الدولة وواجباتها، بل ولا حتى عن المصداقية السياسية التي لا أعلم ماذا بقي منها!! إنما عن إمكانية إقامة حوار وطني، مهما كان شكل هذا الحوار، وبنوده وجدوله مع هذا الفريق تحديدا؟!

 

هل لهذا السؤال علاقة بما يسمى انسداد الأفق السياسي للحوار مع هذا الخطاب وأصحابه؟! أم أنني أعاني شخصيا من ضعف موهبة الخيال السياسي المبدع ؟!

 

أختم هذا المقال بمقارنة مثيرة توضح الفارق بين السياسي والثقافي، بين الرجل الحزبي الذي يمثله كوسرت وبين الشاعر الذي يمثله شاعر كردستان الكبير، وربما الأكبر، شيركو بيكس. لي صديق عراقي كردي مختص بترجمة أعمال الشاعر شيركو وقد ترجم له قصائد عدة، من بينها قصيدة "حلبجة تذهب إلى بغداد". في هذه القصيدة التي أرسلها لي صديقي وجدت أن شيركو يعبر بوجع كبير وشفاف جدا عن ضحايا المدينة المنكوبة، يتألم ويشتكي من خذلان العالم الذي بقي من شرقه إلى غربه متفرجا دون أن يحرك ساكنا، ولكن الملفت في القصيدة هو طبيعة حضور بغداد في ذاكرة الشاعر شيركو بيكس! هناك فصل بين بغداد ورموزها الجمالية والشعرية والفكرية والمكانية من جهة، وذاكرة القمع المرتبطة بالدكتاتور وقهقهته البلهاء من جهة أخرى! إنه يبكي أحد ضحاياه فيقول:

 

(عندما تحمل لحيته

والشعر والنرجس

ورؤيته النضرة

المليئة بالنور

تصبح قنديلا لله

والقنديل يبكي)

يصف الغاز السام فيقول:

(أنت نبع ماء يغلي

ويرتفع منه بخار غدر كبير)

 

ومع ذلك نلحظ مثول بغداد في مخيلة شيركو جميلة زاهية ونقية! بغداد ليست مدينة للقمع والإبادة، بل مدينة للشعر والحرية والجمال والفقراء (الجواهري، أبو نؤاس، رشدي العامل، جواد سليم، ... إلخ)، وبالبرغم من ألمه الهائل يبقى لا يرى الا ما هو إنساني! بلا تعصب ولا عدوانية! هذه الروح المتسامية للشاعر، الروح المتشبثة بقمم جبال كردستان، لا تختار مكانا لتذهب إليه "حلبجة" (زهرة القمح) كما يصفها، غير بغداد! يبقى محافظا على تفاؤله فيقول على لسان "عنبر خاتون" (زوجة الشاعر الكبير مولوي) التي تصبح رمزا حضاريا ( = معلمة):

 

(حلبجة ستذهب الى بغداد.

وفي جعبة غيمة بيضاء ستأخذ معها خمسة آلاف فراشة.

حلبجة تذهب الى بغداد

وعندما تصل

يقف دجلة بطول قامته

ويحتضنها من قدها

ويمد يده ويضع على رأسها قبعة الجواهري).

 

ثم تتوالى بعد ذلك أسماء أعلام بغداد ومعالمها الأخرى على لسان "عنبر المعلمة"! ولا يقتصر الأمر على بغداد فقط وإنما نشهد ظهور رمز ديني اخر هو مدينة "النجف":

 

(بحماس ستحلق حمامتان من النجف وتحطان على كتفها. ومن هناك تبدأ أشجار الزيتون والصفصاف والنخيل حفلة رقص).

 

إن حلبجة تذهب لبغداد ولكن ليس لتنتقم، أو تقتص، أو تثأر؛ بل ل(ترمي اخر ثوب للبكاء)، (حلبجة تلبس ثوب الشمس، حلبجة تلبس ثوب الكرنفال، ثم تذهب. حلبجة تذهب الى بغداد).

 

إن الفارق بين خطاب كوسرت وشيركو، بين السياسي والثقافي الشاعر، يختلف في كيفية التعاطي مع الألم، وفِي شكل التعبير عنه، وفِي الفصل بين الذاكرة القمعية والانتماء، بين العصبية التي تختلق الأزمة والروح الإنسانية التي تطفئها.

 

 

19-10-2017

 

مقالات أخرى للكاتب