ثقافة
بفائض من العفوية والسعادة اخذتني صديقة عراقية مغتربة من شرفة بيتها حيث كنا نجلس الى صالة البيت كي تشاركني فرحتها بالوسائد الجديدة التي احضرها لها احد الاصدقاء من بغداد وهي مزينة بصور للوحات الرسامة العراقية نادية اوسي، قالت: اشعر ان بغداد الحلوة صارت الان في بيتي... اثنيت على ذوقها في الترتيب واخبرتها ان في بيتي وسائد احضرها زوجي من بغداد ايضا وفيها لوحات الفنان محمود فهمي واني احب لوحاته اكثر من لوحات نادية اوسي. لكن صاحبتي شهقت شهقة كبيرة وقالت: معقولة يمعودة اصلا اني بس اشوف هذه اللوحات عيوني تدمع شلون متأثر بك.
حين عدت للبيت قضيت وقتاً طويلاً وانا اتأمل لوحات معرض الفنانة نادية اوسي الذي اسمته "حكايات من وطن" ولوحات اخرى لها واقارنها بلوحات الفنان محمود فهمي. لكن لماذا محمود فهمي؟ ربما لانه معاصر لها، ويتحرك في ذات المنطقة الفنية التي تتحرك فيها الفنانة اوسي وهي الذاكرة العراقية البغدادية في ايام مجدها وجمالها والقها الغائب الان. وربما اردت ان افهم لماذا تروقني لوحات فهمي بينما لا اتفاعل مع لوحات اوسي بنفس الطريقة.
مؤكد ان لكل واحد منا اسلوبه في التلقي الجمالي، ولطالما كانت اللوحات التي تعطي ايحاءً بحركة ما تعجبني وتلفت انتباهي، والايحاء بالحركة هي ان تبدو الشخصيات وكأنها ناطقة بالحياة او تكاد تنطق. فطيات الملابس تهفهف مع الريح والاشجار تتمايل في اللوحة كما تتمايل في الطبيعة، والشعر الصبية يلتف حول جسدها ويميل حول كتفها فيكاد يكون ملموسا بين يدي المتأمل، ونظرة العيون مصوبة للمشاهد وكأنها تحدثه. هذا واضح جدا في لوحات محمود فهمي ولاسيما لوحته الاخيرة التي اسماها "فطور الحديقة الخلفية"، وفيه الفتاة الجالسة بكل استرخاء ترفع شعرها بينما تتدلى خصلة على جبينها في حيوية مشهدية طاغية، تتجانس فيها حركة الانسان مع النباتات الصغيرة في ارضية اللوحة والاشجار والجمادات الاخرى مثل الدراجة الصغيرة في جانب اللوحة التي توحي بحركة وحياة اخرى فمجرد النظر للدراجة يستدعي ذهنيا صبيا يقودها وكركرات اطفال من حوله. ثم تاتي السيدة في خلفية المشهد وهي تنشر ثيابا على حبل الغسيل بينما تهفهف الثياب في حركة تحملها تلك الضربات الخفيفة من اللون الابيض والازرق. لوحة كلها حيوية وحركة وتفاعل عاطفي بين المتلقي وجماليات التفاصيل.
في لوحات نادية اوسي تغيب الحركة تماما فتبدو الاشياء مرتبة ومنظمة جدا، لكنها بلا روح او هكذا اشعر حين اتأمل اللوحات. واحسب ان الحركة في تفاصيل اللوحة هي التي تضفي الروح على شخصيات اللوحة، تكتفي اوسي بتصوير البيئة البغدادية المحلية وتوثق جوانب كثيرة من المواضيع الشعبية البغدادية مع الاحتفاظ بالرموز الجمالية البغدادية . فمشهد الفتياة قرب باب الدار يتجاذبن اطراف الحديث وخلفهن بيت من الطراز البغدادي في السبعينيات، ومشهد السيدة التي تجلس في مطبخها لتلف اوراق السلق وتصنع اشهر اكلة عراقية (الدولمة) مع خلفية للمطبخ وقد رصت الاواني والاكواب رصا منظما جدا، ومشهد الرجال في القهوة و كل واحد يحمل مبسم النركيلة او قدح الشاي.. الشخصيات صامته وجامدة تفتقر للبعد الثالث، تكاد تكون مثل لوحة صحن الفاكهة في لوحات الطبيعة الجامدة، تبدولي هذه اللوحات اشبه بالرسوم التوضيحية في الكتب المدرسية التي درسناها في طفولتنا. انها تصلح لشرح معنى البيت البغدادي وتفاصيله للغريب الذي يسأل عن بغداد والحياة فيها. المعالجة الفنية تكاد تتكرر في كل اللوحات تقريبا كاسلوب يميز الفنانة اوسي، فاللوحات تكتسب اهميتها وجاذبيتها حسب تصوري من قدرتها على اثارة عاطفة المتلقي نحو هوية غائبة وذاكرة مثقلة بالتفاصيل الجميلة التي عصفت بها الايام. فصارت استعادتها في لوحات مفعمة بالالوان النارية والتفاصيل الدقيقة، حالة عاطفية واحتفاءً بالتأثير البصري لدى كثير من المتلقين تعيد انتاج الواقع الغائب والراكد في الذاكرة من جديد، هي لوحات الذاكرة العراقية النازفة، لكنها كما احسب قد حولت البيئة البغدادية الى بيئة صامتة مثل لوحات الطبيعة الصامتة وحولت مجرى التلقي الى عاطفي بالدرجة الاولى وجمالي بشكل ثانوي، تتراكم بنيات اللوحة بشكل هندسي وتبدو مسطحة بلا تموجات، تعكس واقعا صناعيا يبحث عن مسوغ صوري لاحساسه البصري.
يبقى معيار الحركة التي تنتج من التضاد المرئي الذي يتلاعب بالظل والضوء ويخلق الايهام بالحركة هو المهم في اي لوحة، يحول الفنان الخطوط الجامدة الى حقيقة يدركها البصر وتزداد حيوية كلما اتقن الفنان تكنيك الابعاد الثلاثية وانتقل بشكل تدريجي او فجائي مع الحفاظ على تناسب الاشكال، وهذا ما احسبه غائب في لوحات الفنانة اوسي وهو سبب الخلاف بين المتلقين لاعمالها واسلوبها في التصوير.