رأي
الثقافة الأكثر تجذّراً في ذهنية العراقيين هي التركة الضخمة التي تركها حزب البعث، التي تستند على ثقافة الترويع والاغتيالات وتحويل العراق إلى حامية قبلية وعائلية يحكم فيها الأب وأبناءه، والتي تقوم على فكرة الحديد والنار وتأصيل الشعور القائم على فقدان الثقة بين العراقيين.
لا تكتفي هذه الثقافة بتغذية شعور الدونية بين أوساط العراقيين فحسب، بل عمّقت في ذهنية العراقيين أن من يحكمهم بالحديد والنار هو بالحقيقة شخص متفضّل ولولاه لانتشرت الفوضى والخراب. فمن هذه الناحية الشخص الدموي هو "عبقري بلا شك" لأنه أحكم قبضته جيداً وضبط إيقاع السلوك العراقي المتمرد، وجعل الناس تسير على وتيرة واحدة.
انتشرت في فترة التسعينيات، على اثر الانتفاضة الشعبانية، قصة تلخّص هذه الثقافة الرثة ومفادها: إن صدام حسين وأولاده سينتقمون من هذا الشعب الذي كان يصفق لهم ويغني ويعربد!، كيف له أن يتجرّأ للانتفاض على أولياء نعمته في الوقت الذي كان يصفق لهم. لا بل يحكى عن صدّام أنه كان يتندر على أنه ألبس العراقيين أحذية بعد أن كانوا حفاة.
ولذلك لم تكن تهكمات النائب (فائق الشيخ علي) حول العراقيين نابعة من فراغ، فقد استشهد بحديث لنوري السعيد يقول فيه هذا الأخير: إن العراقيين مثل الملح الفوار سرعان ما يخفت ويهدأ بعد الفورة الأولى.. وهو في الحقيقة يلخص انطباعاته "الصادقة" تجاه الشعب العراقي ويدعمها بحقيقة "تاريخية دامغة"، وهذه المرّة بطل الرواية نور السعيد!.
بعد أن منيت السيدة حنان الفتلاوي في الانتخابات الأخيرة بهزيمة غير متوقعة، رافقت السيدة حالة استياء مبطنة بشتائم تحقيرية للشعب العراقي مفادها: إن الشعب العراقي يشمت بخسارتها ويعاديها في الوقت الذي ينسى هذا الشعب من هتك أعراضه!. حتى أن النائب همام حمودي اعتبر خسارته في الانتخابات هو محاولة لتفريغ الحكومة من الشخصيات النزيهة، وأن الناخب العراقي ساهم في هذه الدورة الانتخابية في صعود الفاسدين.
والخلاصة التي قدمتها لنا قناة أفاق في شريط الأخبار حول تقدم دولة القانون في الانتخابات ما أثار الرعب لكيان سياسي في شرق القناة ويرهب المواطنين.. ولهذا التصريح دلالته الطبقية والمناطقية الواضحة، فلطالما كانت شرق القناة مصدر احتقار وعنجهية من قبل الفئات "المتمدينة"، ويبدو أن الحزب الذي ينتمي له رئيس كتلة دولة القانون لا تتوفر فيه عناصر من شرق القناة، فالقناة ساقية فقيرة بالقياس إلى نهر الفرات!. ( ولو كان الفرات يعلم بهذه التقسيمات المناطقية لأعلن جفافه!)
هذا الخطاب المتعالي المملوء بالاحتقار والغطرسة لم يكن وليد اللحظة كما أشرنا، ولطالما كن المواطنون رعايا في نظر هؤلاء، الم يتندر النائب همام حمودي على العراقيين بأنه هو وأمثاله من جلب الديمقراطية للعراقيين. (وبالمناسبة ، ان من جملة العداء الذي اكتسبه آل الصدر من قبل الأوساط الحوزوية هو اهتمامهم بفقراء الجنوب" المعدان").
ظلت هذه سردية " البطل" و" المنقذ" الافق الذي يلهب مخيلة الساسة العراقيين، وطريقة تفكير لكل نهابي السلطة، وقد توارثها سياسيو اليوم بشكل أكثر إتقاناً من ذي قبل؛ هذه المرة تغوص عميقا في مسامات الذاكرة المذهبية من قبيل: " مختار العصر"، " لبوة المذهب".. فمن هنا نفهم سبب نفور هؤلاء الساسة من الشعب العراقي، وعدم تقدير هذا الشعب للخدمات "الجليلة" التي قدمها لهم هؤلاء اللصوص.
المشكلة ليست في تداول هذه السردية وتوارثها، المشكلة إننا صدّقنا عليها برباطة جأش!،وأضحت عقيدة لمختلف الفئات العراقية، وبات الأمر أكثر التباساً من السابق، إذ يندر التفكير خارج هذه السردية، ويصعب على الفرد العراقي تقييم ذاته خارج هذا السياج المصطنع، إنها طريقة تفكير وإطار آيديلوجي صلب لا يتصدّع بسهولة، لأنه يعيد إنتاج نفسه بواسطة "الآباء" الجدد. يتداول العراقيون ذات القصة وذات السيناريو ويتطلعون إلى عقوبة جماعية تردع هذا التمرد والفوضى، وإن تطلب الأمر الرجوع إلى "ثقافة الجثث المعلقة"، حسب تعبير الراحل هادي العلوي، ومن هنا نرى قصة الحنين إلى صدام هذه الأيام، صدام الذي ختم حياته في حفرة ضيّقة كان قياسها مناسبا لتاريخه " المجيد".