ثقافة
يفتتح القاص لؤي حمزة عباس مجموعته القصصية بقوله: "إنها واحدة من مهمات القصة: أن تعيد حكاية العالم على نحو يليق بأحلامنا[1]" لذلك تشكل الأحلام دوراً واضحاً في معظم قصصه, ففي حكاية(أعمى بروغل)ابتدأ الراوي بسرد حكاية الشخص الذي تنبأ بعماه, ولم يكتف بذلك بل تصالح مع تلك النبوءة قبل وقوعها, فالاستسلام للأحلام المنطفئة خلقه واقع مر تعيشه الشخصية, وبالتالي تتبلور هذه الأحلام في الفضاء الذي ترزح تحت وطأته الشخصيات, ففي تلك الحكاية لا تملك الشخصية سوى متسع من الماضي الجميل, وقد حدد الراوي هذا الماضي بعام (1978), ففي هذا العام وما قبله كانت البصرة في ذروة شبابها, لكن نذير الخراب دق ناقوسه بعد هذا التاريخ, تبدت قمة ذلك الخراب بحرب القادسية, وما قادته من تبعات على الانسان العراقي, لم ينج منها حتى الان.
ويتكرر حضور الحلم في حكاية فاطمة, فهذه الطفلة التي كانت تعيش حالة مرضية نادرة, اذ تحس حرارة في عينيها كلما اغمضتهما, وسريعاً ما تتحول الحرارة الى حكة لاهبة, وما إن تفتح عينيها حتى يزحف نمل رمادي من بين رموشها عابرا أجفانها المحمرة منتشرا على وجهها, وهذه الطفلة إنما كانت وليدة أحلام ذاك الجندي شارك في حرب الثمانين, فلا أحلام مع الحروب سوى أحلام الموت والدمار, فقد انتهت حرب القادسية لكنها مضاعفاتها لم تنتهِ, فقد عاشها الانسان العراقي في تسعينيات الحصار المقيت, وكان ذلك الجندي الذي طالما حلم بفتاته, إنما يتوعد بلسان الحرب ما ستنتهي اليه من مآس, لذلك تجد الراوي يقارن بين أنين الجندي وصوت آلات الحرب.
ويفتتح الراوي حكاية فاطمة بقصة ذلك الكلب المعاق, ويشبهه بانسان معاقٍ يمكن أن يُصادف في أي مكان, وهذا التشبيه يصوّر فجائع الحرب التي انهكت شعباً عاش تحت ظلالها, رغماً عنه. ويستثمر الحلم أيضاَ في قصة (حامل المظلة) حين ترى الشخصيةُ مسلحين يقدمون على اعدام شخصين أمام باب الفندق الذي يعمل فيه, وهنا يقف كل شيء بوجه الشخصية, فمناخ المدينة لا يحوي غير فصلين مجنونين احدهما صيف قاهر شمسه تذيب الحديد وشتاء اهوج امطاره لا تكل. فمعظم هذه القصص تلقي ضوءاً على جيل الحروب العراقية, وما عاناه من واقع مرٍّ حاصر الشخصيات بالدواهي كلها, وبين أحلام تنبئه بالخراب القادم. وبالتالي فان هذه المجموعة القصصية تحفل بزمنين؛ زمن الأحلام الذي تبلور في خضم الحرب, وهذه الأحلام بين حلم جميل مقتول, وحلم مظلم خلقته عجلة الحرب. أما الزمن الآخر, فهو الزمن الحاضر المتخم بالهزائم, يتضح ذلك بحضور ثيمة المرض والموت, ففي معظم القصص يسير هذا المناخ المعتم للحياة. والغريب أن حضور الأحلام يبدو أكثر جلاء في الحكايات, ففي (حكاية فاطمة) كما هو في (حكاية عوّاد), وهنا يؤكد ما قاله الدكتور عقيل عبدالحسين في قراءته (الحكايات أيضا لابد أن تموت) فالأشخاص الذين هم في الحكايات دائما معرضون للموت على خلاف القصص[2], وهنا يعيد الى الأذهان التلازم بين الأحلام والحكايات, فالموت يلازمهما دائما. وقد استثمر القاص لؤي حمزة عباس ثيمة الحلم ليغور في أعماق الواقع والانسان معاً, وما يعانيه من كبت وقمع, وتوظيفه الأحلام يضفي على قصصه ظلاً شفيفاً من الفنتازيا, جعلت من قصصه تعيد قراءة الواقع بعيداً عن الاغراق بالواقعية, وإنما استثمر الحلم لما يحمله من ترميز, ففاطمة إنما هي رمز مدينة البصرة التي رسمت مستقبلها الحروب, فأعادة خلقها مدينة مصابة, ففاطمة التي يرفعها والدها للفرجة, انما هي البصرة على مرأى من العالم والدود يعبث بعينيها.
وبينما استوطنت الأحلام الجميلة في الماضي, بدا ذلك جليا في (حكاية عواد) الذي قُتل في غرفته في سينما البصرة, وهذه الغرفة "إنما هي غرفة أحلامنا"، كما يقول الراوي, وكما أن الأحلام الجميلة اختفت مع اختفاء السينما من البصرة بعد حرب الثمانين, كذلك اختفى عواد, واذا كانت الأحلام الجميلة تمثّل الماضي فان الأحلام المظلمة التي أسستها الحرب راحت ترسم شكل المستقبل.