ثقافة

الفلسفة كما رآها فيورباخ

الفلسفة كما رآها فيورباخ

د. علي المرهج

لا يحتاج فيورباخ (1804ـ1872) كثير تعريف، هو الفيلسوف المدافع عن إنسانية الإنسان بامتياز، مُتحرر في فكره، مُقبل على الفلسفة يهيم عشقاً بطابعها العقلاني، تأثر بفلسفة هيجل حتى قيل عنه "مُفكراً مع هيجل ضد هيجل"، فهو من (الهيجليين الشباب).

 

من مؤلفاته الشهيرة "مبادئ فلسفة المستقبل"، و "جوجر الدين" و "جوهر الإيمان" و "جوهر المسيحية".

 

اشتغل على التفسير"الأنثربولوجي للدين"، ليكشف لنا عن رؤية "لاهوتية" مؤنسنة، فالله في الفكر البشري دينياً سماوياً كان أم وضعياً هو صناعة بشرية، لأن الله ليس سوى فهم بشري، لأنه هو الإنسان تجلى بصورة إله. 

 

أتقن (فيورباخ) اعادة طرح الأسئلة حول علاقة الإنسان بالدين في كل كتاباته التي صيَرها مُنطلقات للعقل الحُر الذي لا يرتضي أصخابه سوى الركون لمعطيات تفكيرهم العقلاني بطابعيه "التجريبي" و "العقلي" اللذان عملا كل فلاسفتهما على ما بينهما من تباين على جعل الإنسان محوراً ومركزاً للفهم والخلاص بتبنيهما لمبدأ "اليقين المعرفي".

 

الإنسان طاقة خلَاقة وفق مُتبنيات (فيورباخ)، ولا وجود لإله بمعزل عن وجود الإنسان، لأن الفهم البشري (الإنساني) لا يستقيم من دون بناء تصور "انثربولوجي" للذات الإلهية، فلا معنى لوجود ذات مُفارقة (مُطلقة) = (الله) لا إمكانية للعقل البشري لفهم طبيعة وجوده بوصفه (علَة)، لأن الله لا يعدو سوى صورة أخرى ـ بحسب فلسفة فيورباخ ـ للإنسان.

 

الوجود الإنساني صورة ليست مُغايرة للوجود "الميتافيزيقي" المُتعالق مع "اللاهوت" بوصفه صياغة "مُتعالية" لـ"الناسوت". 

 

بعض من الباحثين عرَف فلسفة (فيورباخ) على أنها نقد للدين، وآخرون عدَوها فلسفة للدين، قيل عنه أنه أكبر مفكر في القرن التاسع عشر، حاول تخليص الفلسفة من الميتافيزيقا أو مما أسماها "النفوس الميتة"  ليخرج بها للنور فتكون بمنال ذوي "النفوس المُجسدة" (مبادئ فلسفة المستقبل/224) أو الحية فجعل من مهام الفلسفة إيقاظ الفكر، أو إيقاظ العقل من سباته الدوغمائي بعبارة كانت حينما وصف فلسفة هيوم.

 

طرح فيورباخ فلسفته المادية كضد نوعي للمثالية الهيجلية التي غلَبت البعد الروحي للإنسان على بعده الأنطولوجي، فتجاوز بذلك نظرة هيجل للدين، فوصف فكر (هيجل) وكأنه نوع من أنواع الاستلاب أو الاغتراب الذي يعيشه الإنسان حينما ينفصل أو ينقطع عن وجوده الطبيعي في الحياة.

 

وصف الدين بأنه "وعي الذات اللاواعي"، فكان بحق "فيلسوف النزعة الإنسانية"، لأنه أدرك بأن الدين "اللاهوتي" سلب لأنسنة الإنسان، وفيض لنصوص لاهوتية تحط من قدَر البشرية وحياتها الواقعية ليغيب فيها العقل الإنساني ويحضر فيها بكل سمو "العقل اللاهوتي".

 

الإنسان هو "جوهر الدين" وما الإله غير صورة من صور "الهعشق الناسوتي" ل لـ "فيض اللاهوتي"، الذي تنجلي (مباهج ) التفلسف فيه بربط الدفاع عن إنسانية الإنسان وقدرته علىأنها دفاع عن صورته  "اللاهوتية" = (المؤنسنة).

 

إن استخدام الإنسان لعقله ـ بلغة كانت ـ في مقاله "ما التنوير" واستبدال النزعة اللاهوتية المفرطة في تغييب العقل الإنساني واستخدام منطق الاستبدال، استبدال الدين الميتافيزيقي اللاهوتي بدين آخر أنثربولوجي إنساني، لا هم للمُشتغلين فيه سوى الكشف عن إنسانية الدين أو دين الإنسان، فوعي الإنسان بالإله إنما هو وعي بذاته، وإسباغ لما فيه من نزوع جواني نحو الحق الإلهي الكامن في وجوده المادي لا في الوجود المفارق، فما الإله "سوى جوهر "الإنسان" الخاص ذاته، اللامحدود، ولكنه مع ذلك القابل لتحديدات لا نهاية لها" (مبادئ فلسفة المستقبل/215) فصب نقده على الفلسفة الهيجلية التي جعلت من الوجود الواقعي صورة للوجود المثالي، أو جعلت من الإنسان صورة للإله، فما كان من فيورباخ إلَا العمل على قلب المعادلة الهيجلية، فالفكر عنده "صفة المادة، نتاج الدماغ" (مبادئ/15) وجعل الإله صورة من تصورات الإنسان عن ذاته، وكأنه يُعيد لنا جدلية "وحدة الوجود" بطابعيها الروحي والمادي، كما ظهرت عند مفكري الصوفية في الإسلام، أو عند سبينوزا الذي تُنسب له فلسفة فيورباخ، وإن في القول بعض من تجني على فلسفة فيورباخ، فقد نقد فيورباخ فلسفة سبينوزا لأنها لا تختلف كثيراً عن فلسفة هيجل فـ "المادة ـ عند سبينوزا ـ واقع ماهوي إلهي. كذلك هي أطروحة هيجل تعني ببساطة: الوعي هو جوهر إلهي"(مبادئ فلسفة المستقبل/191). ولم تكن فلسف هيجل سوى النظر للفكر على أنه متعالي، "فكر الإنسان موضوع خارج الإنسان" (مبادئ/193).

 

لم يتجاوز فيورباخ تلك النظرة التقليدية للفلسفة بوصفها تأمل ونظر، ولكنه أضاف أنها تأمل ونظر في عوالم الإنسان، تلك هي رؤيته لها في كتابه "مبادئ فلسفة المستقبل".

 

"إن مهمة الفلسفة الحقة هي التعرف لا على المحدود "الإنسان" في اللامحدود "الله"، بل العكس...(بتعبير آخر إن مهمة الفلسفة) ليست نقل المنتهي ووضعه في اللانهاية بل نقل اللانهاية ووضعها في المُنتهي"، (مبادئ/199) بمعنى جعل الله كامناً في ذات الإنسان، وحسب التصور الديني للأله، على أنه رمز للخير والعدل والجمال، تلك صفات ينبغي أن يبحث عنها الإنسان في ذاته لا خارجه. "فالآلهة تجسيد لرغبات الإنسان" (جوهر الدين/99).

 

"كي تكون الفلسفة صادقة وشريفة"! تلك هي عبارة فيورباخ، عليها أن تعترف "بأن سرَ طبيعة الله ليس شيئاً آخر سوى سرَ الطبيعة الإنسانية" (مبادئ/201). وجعل "وجهة نظر الله وجهة نظر الإنسان" (مبادئ/235)، لأن "وجود الله أو بالأحرى الاعتقاد في وجوده ليس مبنياً إلَا على وجود الطبيعة" ( جوهر الدين/75). "نحن نعيش داخل الطبيعة وعلى الطبيعة وبواسطة الطبيعة فهل يجب علينا مع ذلك ألَا نكون إلَا منها؟ يا له من تناقض!" (جوهر الدين/82).

 

"الفلسفة أخذ ما هو كائن، تفكير ومعرفة الكائنات كما هي، ذلك هو القانون الأسمى، تلك هي المهمة الأسمى للفلسفة" (مبادئ/202).

 

"ينبغي أن يُدخل الفيلسوف في متن الفلسفة حصة الإنسان الذي لا يُفلسف، بل الذي ضد الفلسفة (التأملية)، الذي يُكافح الفكر المُجرد" (مبادئ/206).

 

الفلسفة كما يراها فيورباخ "لا تسعى وراء الفلسفة الجديدة هي فكرة الدين المسيحي موقعنةً (أي واقعية)، فقد نظر فيورباخ إلى الله بوصفه إنعكاس لذاتية الإنسان، أو للذات الإنسانية، فالله كالسطح الأملس الذي يعكس الذات الإنسانية للذات الإنسانية" (جوهر الدين/ مقدمة المترجم/40)، فسيكون بهذا المعنى "مفهوم طبيعة الإله لا يعدو أن يكون مفهوماً عن طبيعة الإنسان" (جوهرالدين/42)، ولربما يتبادر لذهن القارئ أن فيورباخ ضد الدين، ولكنه كان ضد التصور المسيحي والهيجلي للدين، ولكنه يضع تصوراً لدينن إلحب وظيفته وظيفة إنسانية يكون فيه الإنسان إله نفسه، بمعنى جعل كل صفات الألوهية في المحبة أصل في تكوين الذات الإنسانية، وتجاوز فكرتي "الخوف" و "الموت" اللتان هيمنتا على وعي الإنسان البدائي والحديث بقيمة الدين ليستبدلهما بـ "الحب" و "السعادة" اللذان يُحققان الشعور بالخير كله ، ليعلن التحول في دراسة الدين وفلسفته "من الثيولوجيا إلى الإنثربولوجيا" (جوهر الدين/62)، من أجل تأكيد تصوره للدين الإنساني الذي حاول فيه تجاوز الفهم الغيبي للدين "الذي يُمجد الجوهر الإنساني بوصفه جوهراً إلهياً لأنه يبدو مُختلفاً عن الإنسان حتى (بدى وكأنه) جوهر غير بشريَ، ومن ناحية أخرى (من المنظار المادي) فإنه يُمجد على العكس من ذلك الجوهر غير الإنساني بوصفه جوهراً إلهياً لأنه يبدو مُشابهاً للإنسان" (جوهر الدين/92)، لأن "الكائن الروحي الذي يضعه الإنسان فوق الطبيعة، ويعتقد أنه خالقها ليس إلَا "الجوهر الروحي للإنسان نفسه" (جوهر الدين/110)

Image

مقالات أخرى للكاتب