ثقافة

بابل.. ماذا تعني باشراقها مجددا؟

بابل.. ماذا تعني باشراقها مجددا؟

د. هشام داود

إن المجتمع الدولي ومؤسساته الثقافية وقف دائما في حرج شديد أمام صرح بابل، المدينة التي شغلت الدنيا وهي خارج اللائحة العالمية للتراث الانساني، بعد أن أساء اليها بالامس النظام السابق، شوه معلمها الاساسي واعاد بناء العديد من ابنيتها باتجاه تقويل التاريخ ما تتمناه الايديولوجيات القومانية وممثلوها السلطويون. هذا التشويه الذي قاد المجتمع الدولي الى إخراجها من لائحتها في العقد الثامن للقرن العشرين، تبعته محاولات عديدة جرت منذ ٢٠٠٣ لاعادتها الى لائحة التراث العالمي، خاصة في ٢٠١٠، ولكن الحاجز بقي ذاته. هذه المرة وافقت اليونسكو على الطلب العراقي بشرط إعادة الموقع الى سابق عهده، وأن تؤمن المنطقة بالكامل، وتحمى من التأثيرات والضغوط العسكرية مهما كان مصدرها.

 

لا يمكن لكل وطني غيور إلا أن يفرح بهذا المنجز الذي تعود اركيولوجيته للكثيرين، منهم من قضى تحت رصاص الارهاب والعنف كـ(كامل شياع)، ومنهم من عمل سنوات بصمت للوصول الى هذه اللحظة من التفهم الدولي للعراق ولبابل، حتى ولو كان مشروطا، فهل يتمكن العراق، بوزارة الثقافة الفقيرة، من إحداث هذا التغيير؟ نتمنى ذلك.

 

لكن بقي علينا أن نعرف أن لبابل عمرا يناهز الخمسة آلاف سنة تقريبا، وتنقسم الى مدينة كونية والبقية مدينة رافدية مهمة، وكانت تقدر نفوسها في منتصف الألف الأول قبل الميلاد بأكثر من ربع مليون نسمة، ومساحتها بلغت مئات الهكتارات، في وقت كانت مدينة القدس، شاغلة الدنيا، بأقل من 90 هكتارا. لبابل الدولة كانت زراعة متطورة، ونظام ري مركب متقدم جدا، ورعي وتقنية عالية بمعايير ذلك الزمان، واقتصاد متفوق، والعديد من الانجازات العلمية والجبرية والفلكية، والابداع الادبي والاساطير والملاحم، الخ. حتى أنها لم تظهر حضارة من حضارات الشرق بعد الأف الثاني قبل الميلاد لم تاخذ منها شيئا.

 

عُرفت بابل أيضا بتعدديتها وتداخل لغاتها وشجاعتها (الديانات والاساطير القديمة تصفها بصفاقتها او ارتباكها كما يعبر عن ذلك بشكل مؤدب). وأنتجت الكثير من الحكايات والاساطير واللوحات. ولكنها من دون القبول بالتعددية والتعبير والاناشيد الدينية على مذبح الالهة المتعددة لا يمكن أن تكون بابل.. وهذا ما لم تنله حاضرة حامورابي بسبب الحكومات العراقية المتعاقبة منذ ٢٠٠٣، التي منعت عنها الفرح والغناء والمسرح، وهددت حتى اسمها وهويتها العميقة.

 

بطبيعة الحال، علينا التذكير بأن بابل اهينت كذلك من قبل القوات الامريكية يوم رابطت دباباتها الابراهامز على اراضيها، ولم تغادرها الا بفعل حملة دولية، لم تكن للحكومات العراقية أي دخل فيها، علينا الاعتذار لبابل، وارجاعها الى تاريخها الحقيقي، والعمل على فتح ابوابها وعدم قضم اراضيها، وفتح مسارحها والاستماع لترانيم آلهتها، ألا تنعت بابل باللغة الاكدية القديمة بـ"باب الآلهة"؟

 

بكلمة اخرى.. إن إدراج بابل على لائحة التراث الانساني يعني تبني تاريخ العراق بكل تعدديته وبريقه وايضا ببقعه المظلمة، إن إدراجها هذا يعني بأننا كعراقيين أصبحنا وكلاء على حسن إدارة هذا الارث العالمي، وليس تجييره كمنجز لهذا الطرف أو ذاك.. إن بابل ارث عراقي وملك للبشرية جمعاء.

 

 

د. هشام داوود: باحث بالانثروبولوجيا الاجتماعية في المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية.

 

المقال خاص بـ"العالم الجديد"

 

مقالات أخرى للكاتب