رأي
يقودنا الوضع العربي الراهن بكل ارهاصاته وتحولاته الى تساؤل عن طبيعة الحاكم العربي وكيفية خروجه من مواصفات سلوكية سايكولوجية افرزتها فترات الحكم العربي الاسلامي مابعد الراشدي، أو حقبة الثورات والانقلابات العسكرية، في صورة يلخصها المعز صاحب القاهرة حين سئل عن نسب الفاطميين، فجذب سيفه من غمده, وقال هذا نسبي, وأخذ ينثر الذهب على الامراء والحاضرين, وقال هذا حسبي، كما يرويها جلال الدين السيوطي في كتابه (تاريخ الخلفاء).
وليس بعيدا عن هذه الصورة ما حدده الباحثون في التاريخ العربي الاسلامي, من ان الحكم مبني على القوة والقهر والسطوة والتسلط تارة وعلى الطاعة والاستعباد والتحكم تارة اخرى. وعلى هذا خضعت المنطقة العربية, لنمطين من الحكم، الأول طاعة أولي الامر, والثاني العجز والخوف اللذين ساقا المجتمع لروح الاستسلام والخضوع حد تقديس الحاكم.
يرى الباحثون في الشؤون السياسية والاجتماعية ان الحكام اعطوا انفسهم المواصفات التي ترسم لهم (وحدهم سايكولوجيا الحاكم العربي) المواصفات التالية:
1- الحاكم الذي يمنح ذاته أهمية أعلى مما يستحق.
2- المغالاة في تفخيم ذاته حد الهذيان الفكري.
3- انعدام القدرة على تقييم مقدراته الجسمية والنفسية والمعنوية والاجتماعية والمالية الى غيرها من المواصفات.
4- جنون العظمة والتي لا يدرك المريض انه مصاب بها, وليس بعيدا عن تلك المواصفات ما جاء باحدى الدراسات عبر صحيفة المدى والتي حددت سايكولوجيا الحاكم بما يلي: (البرانويا, الغطرسة الذوبان في السلطة حد اختزال المجتمع والوطن بشخصة, النرجسية الخبيثة, التصلب الفكري, تفضيل جماعته وابناء مذهبه وما يسمى (بالحول العقلي) وفكرة الغالب والمغلوب والحاكم هو امتداد لحكم الخلافة والتي تعد تكليفا سماويا.
وضمن هذه التوصيفات لأجواء الحكم العربي الاسلامي, والتي استمرت بتاثيراتها على زماننا المعاصر, تشكلت السلطات العربية التي رسمتها معاهدة سايكس بيكو على انقاض الامبراطورية العثمانية بعد الحرب الاولى.. ولناخذ العراق كنموذج نقرأ من خلاله نوع الحكم الذي تشكل ما بعد الحرب العالمية الاولى على وفق الارادة الاستعمارية البريطانية التي وضعت الخارطة الجغرافية له والمتشكلة من الولايات الثلاث (الموصل- بغداد- البصرة), وقد تمثلت فترة الملك فيصل الأول الذي أصبح ملكا على العراق في 1921 ببعض المنجزات التي تعمل وفق مفهوم العراق كدولة لها من المؤسسات العسكرية والتربوية والاقتصادية ما يؤهلها ان تساير الدول الشرقية حديثة التشكل.
بعد وفاة الملك فيصل الاول 1933 ومجيء الملك غازي عن عمر 23 عاما, أعيدت الصراعات بين القيادات العسكرية التي تندرج سلوكياتها ضمن التوصيات التي ذكرناها انفا، فكان انقلاب بكر صدقي 1936 ضد حكومة ياسين الهاشمي, وكذلك انقلاب رشيد عالي الكيلاني 1941 والذي في وقتها قرر المجلس النيابي عزل الوصي عبد الاله في مايس 1941 بالاجماع, واعاده بالاجماع بعد شهر من الانقلاب, لتتشكل لنا صورة عما كان عليه المجلس الذي يخضع لرغبات القادة العسكريين بشكل كامل.
ان رحيل الملك غازي 1939 بحادث اعتقد في حينها انه محاولة اغتيال (بسبب مواقفه وأفكاره القومية العربية) أدخل العراق في فوضى النزاعات المبنية على التصورات الشخصية لزعماء توارثوا الحكم منذ تأسيس العراق كدولة الى حيث نهاية الحكم الملكي 14 تموز 1958، حيث انتقل الحكم من ملكي دستوري الى جمهوري رئاسي يعمل بدساتير مؤقتة توضع حسب أهواء السلطة ورؤاها السياسية.
يرى الكثير من الباحثين أن فترة الحكم الجمهوري في العراق من أحلك الفترات التي مرت على هذا البلد, بتسلسل الانقلابات التي بدأت 1958 بقيادة عبد الكريم قاسم, انقلاب 1963 بقيادة عبد السلام عارف, انقلاب 1968 وتولي حزب البعث العربي الاشتراكي بقيادة أحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين، هذه الانقلابات العسكرية أوصلت للحكم رجال اتسموا بروح الشقاوة, العنف القمعي, النزعة الاستبدادية, احتقار الشعب والخوف منه, اندفاعهم المغامر في القتال وخوض المعارك بسرعة وطيش, وتحولهم الى دكتاتوريين, وبحكم الطريقة التي جاءت بهم الى السلطة, نراهم قليلي الخبرة في المجال السياسي والمؤهلات التي تجعلهم مقبولين من لدن السياسيين والمجتمع العراقي, مما جعلهم يفرضون سلطاتهم, ويعملون للتخلص من العناصر الكفوءة حولهم واستبدالها بالاتباع.
واستمر هذا الشكل من الحكم والتسلط الى حيث 2003 ودخول الجيش الامريكي وانهائه حكومة صدام حسين وحل تشكيلات الدولة العسكرية والامنية والاقتصادية, واضعا العراق بين مخالب تنظيمات حزبية كانت تسمى بالمعارضة, والتي انشغلت بتقاسمها للسلطة وتوزيع الثروات فيما بينها دون الاهتمام بمعاني الإدارة الفاعلة الراغبة في تكوين دولة عصرية حديثة, تميزت هذه التنظيمات ببروز النزعة النفعية في سلوك افرادها وضعف الشعور بالالتزامات الاجتماعية, تمحوروا حول كيفية الحصول على مكاسب فردية من زعامة وسيطرة وثراء، الى حيث خلق المنافسات الحادة التي أصابت المجتمع العراقي بسيل من الدماء، جراء الحروب الطائفية التي استمرت عدة سنين منتجة حركات طائفية متطرفة, كان للعامل الاقليمي والدولي دور كبير في تحويل العراق الى مسرح لصراعات ايديولوجية، وجعله بلدا مستهلكا لمنتجاتها، لحين وقوع العراق في مأساة الهيمنة الداعشية 2014 والتي لازال البلد يعاني منها ويقدم شبابه ضحايا لاجرامها ولروحها السادية ورؤيتها العقيدية التي بدأنا الحديث عنها في اول مقالنا هذا.
وبعد ما حصل من ثورة شبابية تشرينية هل يمكن اغفال هذا التاريخ الماساوي لحكام حكموا المجتمع بالقوة والقهر وفرض الطاعة؟ أم أن من الضروري دراسة احوال الحكم والمتسلطين ووضع سلوكهم السيكولوجي امام من سيقود البلد, ليعتبروا من هذه الفترات العصيبة, وياخذوا مطالب الثوار والمجتمع بعين الجد الساعي لبناء عراق مدني حديث.