رأي

صنابير الدم.. دردشة مع "الزعيم"

صنابير الدم.. دردشة مع "الزعيم"

منتظر ناصر

ستة أجيال في العراق تعاقبت على حركتك التي أسميتها أنت "ثورة" وسماها آخرون "انقلابا"! فرِح بشرارتها الفقراء والفلاحون والمثقفون والعمال والكادحون وحزن لها الملكيون والإقطاعيون و"الرجعيون".. بعد 62 عاما بالتمام والكمال على صبيحة يوم عراقي جديد تمكنتَ خلاله من تعبئة النفوس وشحذ الهمم بالأمل والعمل، وأقمت الجمهورية العراقية التي كان لوقعها صدى كبير في المنطقة والعالم.

 

ولأن آباءنا وأجدادنا من غالبية الشعب، الفلاحين والفقراء المهمشين، رأوْا فيك أملهم والمخلص لهم، لذا نادوك بالأب والزعيم.. وجبلونا على حبك وكأنك واحد منهم، لكن دماءنا التي سالت على مدار ستة عقود، دشّنتها أنت بانقلابك العسكري، أنجبت أسئلة تمنيت أن لا أطرحها على أحد غيرك لأنك الأحق بسماعها:

 

هل تعلم أن معظم أبناء مواليد ثورتك "المجيدة" انقرضوا في الحروب والحصارات الطويلة؟ وأن قانون الإصلاح الزراعي الذي لازال محبوك يفخرون به أدى لانفصال الفلاح عن أرضه وجعل أيتامها يستهلكون فتات الجيران؟ وأن الثورات من بعدك ارتبطت بهواجس القتل والسحل؟

 

أعلاه.. حوار متخيل بين شهيد الكلمة، الباحث الاستراتيجي والأمني الدكتور هشام الهاشمي، ومؤسس عهود الجمهورية الجنرال عبدالكريم قاسم، وهما في السماء، فلم تكن مصادفة أن تتزامن ذكرى افتتاح أول صنابير الدم في العراق الحديث، مع حزننا بإراقة دماء جديدة ذهب ضحيتها العديد من النخب العلمية والاجتماعية والسياسية، كانت آخرها دماء الهاشمي.

 

إن مغامرة الجنرالات في 14 تموز يوليو 1958، أياً كانت دوافعها، لا زالت تُرغم العراقيين على دفع فواتيرها، دماءً وضحايا ومعاقين ومفقودين وأسرى وسجناء وأرامل وأيتاما ونازحين ومهاجرين ودمارا وتفككا أسرياً، فالانقلاب الذي تحل ذكراه الـ62 اليوم وأطاح بالنظام الملكي (1921- 1958) على يد الجنرال عبدالكريم قاسم ورفاقه، فتح الباب على مصراعيه أمام عهود جديدة من الدم، اختلفت أسبابها وحيثياتها لكنها توحدت في النتيجة باستمرار حمام الدم العراقي.

 

دماء هشام الهاشمي وأسلافه امتداد لسيل الدماء التي أريقت طوال العقود الستة الماضية، انبثاقا من حفلات السحل لأجساد العائلة المالكة ورموز النظام الملكي، وليس انتهاءً بدماء ضحايا انتفاضة تشرين الأول أكتوبر 2019، ناهيك عن دماء ضحايا جميع العهود الجمهورية، سواء مؤسسها (عبدالكريم قاسم) الذي أعدم في مبنى الإذاعة والتلفزيون صبيحة 8 شباط فبراير 1963 أو ضحايا السلطات المتعاقبة التي ارتفع مؤشرها خلال حقبة القوميين (1963- 1968) وحزب البعث (1968- 2003) الذي حكم البلاد بالحديد والنار وأدخلها في حروب وصراعات وحصارات دولية لم يتحمل تبعاتها سوى الشعب، وما تلاه من سقوط نظامه على يد القوات الأمريكية المحتلة في 9 نيسان ابريل 2003، حيث دشنت البلاد تاريخا جديدا من الوقوع ضحية الصراعات الدولية والاقليمية وشاع القتل المجاني في الأزقة والشوارع، واستمر نزيف الهجرات، وصولا الى أبشع حالات العنف على يد تنظيم داعش الذي أدخل البلاد في موجة رعب تاريخي بفعل احتلاله ثلث مساحة البلاد في 9 حزيران يونيو 2014 وقبل اعلان النصر بعد ثلاثة أعوام.

 

قد يجلد بعض العراقيين أنفسهم، فيعزون أمر عدم الاستقرار الى ثقافة وسلوك مجتمعي لا ينفع معه ضبط أي نظام سياسي، لكنهم لم يلتفتوا الى أن التحولات الكبرى كالتي واجهتهم في 1958 وما تلاها من انقلابات وحروب وحصار واحتلال وتوترات طائفية، من شأنها أن تضرب حالة الاستقرار المطلوب لإنتاج قيم وتقاليد تكفل تطوره وتقدمه، إذ يقدر علماء الاجتماع حاجة أي مجتمع يتعرض لهزات من هذا النوع وتتسبب باضطراب القيم داخله، الى ربع قرن على الأقل من الاستقرار، ليتمكن مجددا من إنتاج قيم أخرى لا تشبه بالضرورة السابقة، ويظل السؤال الأكثر إلحاحا: مع عدم حصول استقرار طويل الأمد الى متى سيظل العراق فاقدا للاستقرار ومسرحا لإراقة الدماء؟

 

مقالات أخرى للكاتب