رأي

من اعتدى على الطفل.. الشرطي أم المجتمع؟

من اعتدى على الطفل.. الشرطي أم المجتمع؟

د. راجي نصير

الاعتداء الذي حصل على الطفل المتظاهر في بغداد من قبل قوات حفظ النظام يحتاج الى وقفة مراجعة شجاعة للظاهرة قبل الحالة، وبعيدا عن الاتهامات او التبريرات على خلفية سياسية او حزبية او فئوية ضيقة.

 

لا شك أن غياب المحاسبة وضعف الدولة ساهم بتكرار الخروقات حتى تحولت الى ظاهرة متفشية وليست خروقات فردية، وهي – بغض النظر عن وقت وقوعها قبل شهرين كما يقول البعض او الان كما يقول البعض الاخر- جريمة كاملة مع سبق الاصرار والترصد.. تحصل كل يوم خارج ساحات التظاهر وداخلها.. ما يميز هذه الجريمة انها صورت وعرضت للرأي العام.. وما لم يصور اكبر بكثير.. ليس في ساحات التظاهر فقط، بل في كل زاوية من زوايا المجتمع..

 

ورغم حتمية محاسبة منفذيها، ومراجعة سلوكيات القوات الامنية وصلاحياتها وتطبيق العقوبات الردعية بحق المخالفين فيها.. لن اتردد في تسمية ما حصل مع الطفل المتظاهر بانه "جريمة مجتمعية" بامتياز.. لان المشهد يتكرر باستمرار في مختلف مناطق العراق، ويجد له من يتقبله او يبرر له بشتى التبريرات،  لذلك نحتاج  – وبإلحاح- الى خطط اصلاح مجتمعي واسعة ومعمقة.. كثير من الصحفيين قتلوا بسبب مقال او خبر.. وكثير من المدونين قتلوا بسبب بوست على الشبكة العنكبوتية.. العشرات يقتلون لأبسط نزاع عشائري.. واحيانا يقتل اشخاص  بسبب جريمة ارتكبها احد افراد عشيرتهم في محافظة اخرى قد لا يعرفونه ولم يسمعوا باسمه يوما.. تحرش بفتاة يخلف احيانا قتلى كثيرين.. السرقة يصحبها القتل.. والخلاف على صفقة تجارية مهما كانت بسيطة ينتهي بالقتل احيانا.. البعض يعتبر اللجوء الى القانون والمحاكم صورة من صور الجبن المهين.

 

حتى في التظاهرات، يتعرض المتظاهرون الى شتى انواع الاعتداءات من قبل القوات الامنية، واذا وقع المنتسب الامني بيد المتظاهرين يعامل بنفس القسوة.. لان العنف والقسوة سمة مجتمعية شبه عامة، بات مستساغا ومقبولا.. تعليق الطفل في ساحة الوثبة جريمة نفذها مجرمون معدودون.. لكن الذين حضروها وتفرجوا عليها بالمئات وهنا تكمن الكارثة.. ربما منعهم الخوف من الاعتراض او مواجهة المجرمين المنفذين، لكن بالتأكيد لم يجبرهم احد على اخذ "سيلفي" مع جثة الضحية، وكان بإمكانهم الانسحاب من مسرح الجريمة لو كان ما حصل يمثل جريمة بالنسبة لهم.

 

الجريمة عكست الطبيعة العنفية للشخصية العراقية نتيجة التراكمات السلبية للحروب والقمع والاقصاء والعوز والحصار  والارهاب ، والتي تركت بمجملها اثارا عميقة في الشخصية العراقية.. بغض النظر عن خلاف الباحثين والمختصين عما اذا كان هذا العنف طبيعة ام تطبع ام ثقافة تراكمية لسنوات الاستبداد والعنف الطويلة التي خضع لها العراق.. ولاشك ان العنف الذي مارسته السلطات على مدى عقود ترك اثارا غير محسوسة في اللاوعي الفردي.. ولذلك تأخذ بعض الثورات على السلطة في العراق طابعا دمويا في اغلب الاحيان.. ومشاهد القتل والسحل والتعليق على اعمدة الكهرباء تكررت كثيرا في العراق.

 

السياقات الحكومية في حل مشاكل المواطنين تشجع المواطن وتدفعه صوب العنف.. لكي تتعين في دوائر الدولة لابد لك ان تتظاهر وتبتلع الماء الحار، وربما الرصاص احيانا.. ولكي يتم اصلاح واقع الكهرباء او الخدمات في مدينتك، عليك ان تتظاهر وتحرق الاطارات وتقطع الشوارع والجسور وتغلق دوائر الدولة كي يسمعك المسؤول.. وحذاري من العودة الى البيت لان المسؤول سيتملص من وعوده في اليوم التالي.

 

والدليل على تعمق العنف في المجتمع، ان مشاهد السحل والقتل والتنكيل سبقت مراحل نشوء الدكتاتوريات السياسية في العراق الحديث، وسبقت التظاهرات المطلبية الحالية بعقود طويلة.. لا خلاف على الاثر التراكمي للجرائم السلطوية على الشخصية العراقية، لكن اولا: القتل لم يكن حكرا على السلطة. وثانيا: الكثير من الشعوب خضعت مثلنا للاستعمار والدكتاتورية لكنها حافظت على قدر كبير من التسامح والمرونة وقبول الاخر.. ربما نكون متفردين بين الشعوب اننا نعبر عن فرحنا وحزننا باطلاق العيارات النارية.. اذا رزقنا بمولود نطلق العيارات النارية.. واذا توفي شخص نطلق العيارات النارية.. واذا راينا هلال العيد، او فاز المنتخب الوطني او طهرنا صبيا نطلق العيارات النارية.. اما اذا اختلفنا عشائريا فمستعدون لاستخدام مختلف الاسلحة المتوسطة والثقيلة وحتى الهاونات لضرب العشيرة الاخرى.. مواقع التواصل الاجتماعي مليئة بالصراع والصدام والتسقيط.. اقصى ما وصل اليه اللبنانيون في صراعهم الداخلي استخدام مفردتي الموالاة والمعارضة لوصف طرفي الصراع.. اما نحن فابتدعنا مصطلحات غريبة وعجيبة لم يسبقنا اليها احد.. الذيول الجوكرية، العملاء، الخونة، القناصين، ابناء السفارات، الى غيرها من الكلمات البذيئة والهابطة.

 

محاسبة المقصرين امر مهم ومطلوب.. وانصاف الضحية مطلوب ايضا.. ولكن مطلوب كذلك وضع خطط حكومية تعالج جذور التجاوزات واسسها النفسية والاجتماعية، وليس فقط تمضهراتها الخارجية.

 

مقالات أخرى للكاتب