ثقافة

التفكير في التنوير عربيا

التفكير في التنوير عربيا

د. علي المرهج

التفكير في التنوير هو ليس التنوير، لأن التنوير بوصفه ظاهرة وفكر وعمل إنما يرتبط بظروف نشأته الغربية، لكن ما نقصده بـ (التفكير في التنوير) إنما هو محاولة فكرية ظهرت ملامحها الأولى حينما بدأ بعض المفكرين العرب والمُسلمين وعي حالة السبات والتأخر التي يعيشها العرب والمسلمون، فكان أجلى تعبير عنها هو في سؤال الأمير (شكيب أرسلان): لماذا تأخرنا نحن وتقدم الغرب؟، وهذه النحن تأتي تارة بمعنى (العرب) عند المفكرين العروبيين والقوميين، وتارة تأتي (المسلمون) عند مفكري الإصلاح والحركات الاحيائية، ودعاة أسلمة المعرفة، وجماعات الإسلام السياسي، وتختلف الاجابة بين جماعات داخل الاتجاه الواحد بحركية مرة من اليمين إلى اليسار، وأخرى من اليسار إلى اليمين، وبعضها يُمسك العصا من المُنتصف وهؤلاء موجودون في كلا الاتجاهين، مُعتدلون متوازنون، يرتكز أغلبهم على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم الأيديولوجية على فكرة أن الإسلام "أمة وسط" و "خير الأمور أوسطها"، وتعريف أرسطو للفضيلة على أنها: "وسط بين رذيلتين، كلاهما افراط وتفريط"، وهذه الرؤية للفضيلة هي أساس الفلسفة الأخلاقية في الفلسفة العربية والإسلامية، وإلى يومنا هذا.

 

لا أروم الخوض في تقسيمات المفكرين العرب والمسلمين من جهة اقترابهم وابتعادهم عن التأويل بوصفه آلية من آليات "التفكير في التنوير"، فهناك جماعات تذهب في "تأويل النص" إلى أبعد مدى بما يُمكن تسميته "شطحات"، ومن أصحاب هذا التوجه بعض الجماعات الباطنية والصوفية التي تُغيَب العقل الإنساني وتأويل الوجود الطبيعي بما يخدم (ما بعد الطبيعة)، وهناك نزعات وسط من الصوفية من الذين يجمعون بين (العرفان) و (البرهان).

 

في التفسير السلفي للنص هناك اتجهان: أحدهما يغيب فيه العقل لصالح النقل، وهؤلاء لا علاقة لهم بالتفكير ولا بالتنوير، لأنهم سلموا عقولهم بأيدي غيرهم، وهؤلاء ينطبق عليهم المثل العراقي القائل:"ذبها براس عالم واطلع منها سالم"، وعلماء هذه الجماعة ـ في الأغلب الأعم ـ لا يتأولون، إنما هم يُرجحون رواية نقلية على أخرى غيرها حسب مبدأ "الجرح والتعديل" في أفضل الأحوال، أو الحكم عليها بالقياس على حكم أو أي من الذكر الحكيم أو في الحديث والسنة النبوية، أو ما عمل به الصحابة والتابعون، ويأتي بعد كل ذلك إجماع الأمة الذي هو شرط من الصعب تحقيقه لا من قبل ولا من بعد.

 

ومنهم جماعة وسط، يؤمنون بالاجتهاد وقيمته في فاعلية العقل الإنساني مقابل النص، ويصح عليهم القول أنهم "توفيقيون"، أي يُحاولون التوفيق بين الحكمة والشريعة، أو بين العقل والنص، وبعضهم يؤكد كما الأفغاني وتلميذه محمد عبده: أن الإسلام كلما خاطب، خاطب العقل، وما ظهر لنا أنه مخالف للعقل في النقل وجب تأويله"، ومقولة مثل هذه يُمكن أن تتسع لقبول بعض مقولات التنوير وتبني التأويل بوصفه أداة للـ "التفكير في التنوير" إذ نجد تأثيرات المعتزلة، وبعض الفلاسفة المسلمين وعلى رأسهم ابن رشد واضحة في نزعتهم الإصلاحية أو "الاحيائية"، وابن رشد هو النموذج الفلسفي الأجلى للتعبير عن موقفهم هذا، لا سيما في تبنيه خطاب "التوفيق" بين الحكمة والشريعة، ودفاعه عن التأويل ليجعل منه أداة "التوفيق" من أجل تحرير العقل الإنساني، و"اعتبار الموجودات من جهة دلالتها على الصانع".

 

وضحنا بعض مواقف المفكرين العرب والمسلمين المُنتمين عقائدياً للإسلام من الذين يُحاولون الدفاع عنه سواء بالنظر لبعده القدسي "التبجيلي" الذي لا يقبل أصحابه مقولة "تعددية الحقيقة" الذي تفرضه طبيعة الفهم للنص المقدس، أو من يجدون في النص (الإسلام) بعداً حقانياً، ولكنه بُعد لا يُقصي بقية التصورات الأخرى للذات الإلهية ومقبولية تأويل النص (القرآن) بما يجعله قابلاً لكل صورة بعبارة (ابن عربي)، وهؤلاء هم أصحاب النزعة العرفانية الذين يلتقون مع التنوير في تبنيهم للنزعة الإنسانية وقبول الختلاف بوصفه رؤية أخرى للحقيقة.

 

لا ينطلق فهم هؤلاء للنص (القرآن) من الوثوقية (الدوغمائية) التي تنغلق في النص وحوله، ولكن أصحابه ينظرون للنص (القرآن) كما قال فيه من قبل الإمام علي (ع) "حمَال أوجه" أو كلام مسطور بين دفتي كتاب يؤوله الرجال"، وهنا تكون مساحة التأويل بوصفها شكل من أشكال "التفكير للتنوير" مُتاحة عند من ينتمي عقائدياً للإسلام ليبحث في النص (القرآن) عن مساحات مقبولية للآخر المُختلف تُتيحها آيات الذكر الحكيم تفسيراً وتأويلاً أو بظاهر الآية.

 

هناك مفكرون آخرون لا يقرأون النص وفق رؤية عقائدية أو أيديولوجية، إنما هم يقرأونه، بل يجتهدون في قراءته قراءة أبسيمولوجية أو (مناهجية) يصح أن نقول عنها أنها قراءة أكثر موضوعية وأقل ذاتية، لأنها تفصل الذات عن الموضوع.

 

وفق ما سبق يُمكن لنا القول أن الفكر العربي والإسلامي المعاصر التأويلي يتحرك في مساحة "التفكير في التنوير" لفهم النص باتجاهين:

ـ فهم النص وفق مقولات العلقنة وحرية التفكير وفق ما تقتضيه اتجهات التنوير العقلاني للوصول لليقين عن طريق مقولات العلم و "العقل البرهاني".

ـ فهم النص وفق مقولات الأنسنة التي لا تُقصي العقلنة بطابعها (المُجرد) التنويري، ولكنها تنفتح للبحث عن معطيات الفكر العربي والإسلامي داخل النص (القرآن والسنة) بوصفه نص فيه من البرهان ـ باستعارة لمفاهيم محمد عبد الجابري ـ بقدر ما فيه من معطيات في (البيان) و (العرفان) خدمت الحضارة برمتها.

 

أستطيع القول أن أولى ملامح التفكير في التنوير قد ظهرت عند المفكرين العرب المسيحيين، ومنهم شبلي شميل وسمير مراش وبطرس البستاني وفرح أنطون وسلامة موسى، ولكن مفكريها لم يحظوا باهتمام كبير لأنهم حاوروا وسطاً مجتمعياً مختلف عقائدياً عن توجهاتهم العقائدية الموروثة، وتوجهاتهم الفكرية المكتسبة من تأثرهم برؤى فلاسفة الغرب وعلمائها.

مقالات أخرى للكاتب