رأي
برزت مصطلحات جديدة خلال العقدين الماضيين وأسهبت التقارير الإقليمة والدولية في تناول مفاهيمها ومدلولاتها مركزة على مدى أهميتها وجعلها من جملة أهم المقاصد والغايات في سياسات وبرامج التي تسعى الدول الى تحقيقها في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، واصبحت هذه المصطلحات جزء من التداول الروتيني في الدوائر الرسمية ومنظمات المجتمع المدني في عالم اليوم، إلا انه من الممكن ان يكون هناك إلتباس في المفاهيم أو مدى وضوح الترابط بينهم ، فضلا عن أهمية توعية الناشئة بتلك المفاهيمها بصورة مبسطة بعيدة عن التعقيد والأهم من ذلك توظيف تلك المصطلحات والمفاهيم في اطار ينسجم مع طبيعة وثقافة وأيديولوجية المجتمع، لا سيما أن العالم يشهد تغيرات وتحولات متعددة على الأصعدة كافة، ودولنا العربية ليس بمعزل عن ذلك، ولا مناص من قول انها باتت نتيحة لتلك التغيرات تواجه تحديات اجتماعية واقتصادية وسياسية متنامية.
تُعد التنمية مرتكزاً أساسيا للاستقرار والتطور الإنساني والاجتماعي والاقتصادي وهي عملية تطور شامل او جزئي مستمر وتتخذ أشكالاً مختلفة تهدف الى الرقي بالوضع الإنساني إلى الرفاه والاستقرار والسلام والتطور بما ينسجم مع احتياجاته وإمكانياته الاقتصادية والاجتماعية والفكرية. وهي الارتقاء بالمجتمع والنهوض به من الوضع الثابت الى وضع أعلى وأفضل وما تصل اليه من حسن إستغلال الطاقات التي تتوفر لديها، وعليه يمكن القول انها عملية تغير مخطط يقوم بها الانسان للانتقال بالمجتمع إلى وضع أفضل وبما يتوافق مع احتياجاته وإمكانياته الاقتصادية والاجتماعية والفكرية. كما ان هناك تعريف اعتمدته هيئة الأمم المتحدة عام 1956 ينصّ على أنّ التنمية هى العمليات التي بمقتضاها تُوجّه الجهود لكلٍّ من الأهالي والحكومة بتحسين الأحوال الاقتصاديّة والاجتماعية والثقافية في المجتمعات المحليّة؛ لمساعدتها على الاندماج في حياة الأمم والإسهام في تقدّمها بأفضل ما يمكن[1].
يعود تاريخ ظهر مفهوم التنمية على الصعيد العالمي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لكنه لم يعد مرتبط بالاقتصاد وقياس الدخل القومي والناتج المحلي والعمالة وتفاوت الدخول، اذا اتخذ مفهوم متعدد الأبعاد يشمل تغيرات جوهرية في الهيكل والبناء الاجتماعي
والمؤسسات الوطنية والمواقف والاتجاهات الشعبية[2]، كما ان للتنمية أشكال متعددة ومنها التنمية البشرية والاجتماعية والسياسية والحضرية والرقمية، وأسهمت القواعد الدولية في تعزيز دور التنمية من خلال ارساء نظاما لمتابعة أثرها على المجتمع وحقوق الإنسان والاقتصاد والبيئة والتقدم المحرز من خلال مطالبة الدول بتقديم تقارير عن ذلك، ومثال على ذلك تطالب الوكالات المتخصصة للأمم المتحدة مثل منظمة العمل الدولية ومنظمة اليونسكو ومنظمة الصحة العالمية بان تقدم الدول الأعضاء تقاريرها حول أثر التنمية وبرامجها على إدماج النوع الاجتماعي ومستوى مشاركة المرأة في سياسات الدولة.
لاحقا ظهر مصطلح التنمية المستدامة لأول مرة في منشور أصدره الاتحاد الدولي من أجل حماية البيئة سنة 1980، لكن لم يتم تداوله على نطاق واسع إلا بعد نشر تقرير "مستقبلنا المشترك" المعروف باسم "تقرير برونتلاند"، والذي صدر عام 1987 عن اللجنة العالمية للبيئة والتنمية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، وتُعرف بإنها العملية التي تطلق على ذلك النوع من التنمية الذي يأخذ في اعتباره التوازنات والنساق والبيئة ويحافظ على البيئة الإنسانية نظيفة وقادرة على تجديد مواردها، وفي الوقت نفسه يؤدي إلى تحسين مستوى معيشة الفرد والمجتمع. ويساهم في مشاركة الجماعات في مشاريع التنمية والوصول إلى حلول تسوية في المفاوضات الدولية، والإعتراق بمصالح الدول الصناعية والدول غير الصناعيى على السواء[3]. وقد وضعت الجمعية العامة للأمم المتحدة (17) هدفاً في قرارها الصادر في 25 أيلول/2015، وفي 1 كانون الثاني 2016 أدرجت أهداف التنمية المستدامة الـ( 17) في خطة التنمية المستدامة لعام 2030.
أما "التمكين" فهو أحد المفاهيم الأجتماعية المهمة التي تهدف غلى تعزيز القدرات والارتقاء بواقع الانسان عموما (نساءً ورجالاً) لمعرفة حقيقة وواجبات كل منهما، وعلاوة على ذلك تكمن أهمية مصطلح التمكين في كونه يعد من المصطلحات التنموية الأكثر شيوعا واستخداماً، حيث برز في معظم وثائق الأمم المتحدة ومنها لقاء مجموعة " التنمية البديلة بمشاركة المرأة من أجل عهد جديد عام 1985م، وبعدها في مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية عام 1994، كما كرس المؤتمر العالمي الرابع للمرأة في بكين عام 1995 بإزالة العقبات التي تحول دون تمكين المرأة في الجاني الاقتصادي، والتمكين هنا لايختص بالنساء فقط بل هو عملية تحويلية يتعلم من خلالها الرجال والنساء المعرفة والمهارات[4]، ويرجع الفضل للأمم المتحدة ومنظماتها في عولمة هذا المصطلح وتوظيفه، من خلال الكثير من أعمالها وأنشطتها ولاسيما في الدول النامية، فضلا عن التقارير الدورية التي قوم البنك الدولي بنشرها عن مستويات وأثار التمكين المحرز في مختلف المجالات للدول الاعضاء.
ومن حيث الترابط بين المفاهيم يعد التمكين عملاً مجتمعياً مستمراً مكملاً وداعماً لعمليات التحديث والتنمية، إن التمكين عملية عامة وإن تمت بشكل قطاعي، وهي عملية مستمرة وليست مؤقتة، تهدف إلى تمكين كل جماعات المجتمع وأفراده من الاندماج والمشاركة في عمليات التنمية. وهي بنزوعها نحو تمكين الأفراد والقطاعات بأدواتها وآلياتها، فإنها بذلك تسهم في تحقيق عمليات التنمية المستدامة إن لم تكن هي جزءاً أساسيا وأصيلا منها[5].
وخلاصة القول يبقى أهم أشكال التنمية هي التنمية البشرية اذ يكون الأنسان أداتها وغايتها، والتي تبدء أولى خطواتها برفع وعي الناشئة وضبط مصطلح التمكين بالمفهوم العربي وضمن منظومة المعايير والقيم الأجتماعية، فضلا عن تهيئة ثقافة مجتمعية قابلة وداعمة للتفعيل الواقعي لعملية التنمية المستدامة والتمكين وتوفير الدعم والتبني الحكومي لها، بغية بناء وعي تنموي له القدرة على مواجهة التحديات والأيديولوجيات والثقافات الدخيلة التي تُسهم بإضعاف الهوية الوطنية وتشظية النسيج الاجتماعي.
ياسمين سلمان الجعيفري
الهوامش
[1] التنمية مفهوم ومنهج ، بسيوني علي عيدالرحمن / قسم الدراسات العامة، كلية الاداب – جامعة البحرين، ص255.
[2] للمزيد من المعلومات ينظر : بانا ضمراوي، تعريف التنمية ، مقال منشور على موقع " موضوع كوم" بتاريخ 2015، على الرابط الالكتروني الاتي : https://mawdoo3.com.
[3]نهى بن عدنان القاطرجي، معجم مصطلحات المرأة والاسرة ، مركز باحثات لدراسات المرأة ، الرياض، 2016، ص134.
[4] المصدر نفسه ، ص 125-126.
[5] باقر النجار، التمكين والتنمية المستدامة: في محاورة المفهوم ، جريدة البلاد مقال منشور في تاريخ 9/12/2019.