رأي

أوربا وسياسة انتقاء اللاجئ "القوي"

أوربا وسياسة انتقاء اللاجئ "القوي"

محمد عايش عبداللطيف الكبيسي

على مر السنين تستقبل أوربا اللاجئين الذين يقصدون ديارها عبر البحار، ويجازفون بأنفسهم وعوائلهم وأموالهم ليصلوا أوربا، هؤلاء في نظر أوربا لم يجازفوا بحياتهم لولم يكونوا متميزين ومختلفين، وحاملين أو مستوعبين للكثير من جينات الاندماج واحترام الوقت والعمل التي تشترطها أوربا على القادمين الجدد. أوربا تأخذ العبر من تاريخ المهاجرين الاوربين الى أميركا قبل قرون، و تعزو نجاح وازدهار أمريكا  بعزيمة المهاجرين الأقوياء الذين جازفوا وعبروا الأطلسي من أوربا إلى أميركا.

 

أوربا قليلاً ما تستقدم الى بلادها اللاجئين الجالسين في مخيمات اللجوء، الذين لا يحركون ساكناً للقدوم الى أوربا، أواللاجئين البعيدين عن أراضيها من المعوقين أو المرضى، بمعنى آخر إن أوربا تستنقي وتقبل اللاجئين وتقيمهم قبل وصولهم أراضيها، أو حتى قبل أن تقابلهم وتسجل بياناتهم. فهي ترسم لهم طريق صعب، لكنه شبه مضمون لقبولهم كلاجئين أذا ماتم قطعه بنجاح، ومن ثم قبولهم كمواطنين أذا مانجحو في الإندماج.

 

من ركب القارب المطاطي وعَبرَ المتوسط أو بحر ايجة، متحدياً الصعاب، واضعاً قدماه على  يابسةِ أوربا، وماشياً على الأقدام من دولة الى أخرى، يدوسُ الأطيان والغابات في الشتاء البارد، ويباغت قوات الحدود، وربما يتصادم معها لوصول وجهته النهائية، فأن هذا النوع من المهاجرين في نظر أوربا هم الأشخاص الأقوياء، ومثلهم غالباً ما تحتاج أوربا، وإذا ما تم تأهيلهم وإندماجهم، سيعوضون الدول التي تستقبلهم كلفة استضافتهم ورعايتهم ومنحهم الجنسية لاحقاً.

 

رغم كل ذلك، يصطدم الكثير من المهاجرين واللاجئين المنتقون مسبقاً، بإجراءات وسياسات الإندماج الصارمة في أوربا، ويعانون من صعوبة الإندماج والعيش في المجتمعات الجديدة. مثال على ذلك، سوزان العائدة حديثاً أو الهاربة هي وزوجها بطفليهما الى العراق من أحدى دول أوربا المتقدمة ( فرنسا)، إلتقيتها تبحث عن مدارس لأبنائها في أربيل، تحكي عن صعوبة تربيتهم والحفاظ عليهم في ظل وجود قوانين وتعليمات صارمة لدمج اللاجئين في المجتمع الفرنسي، التي تطبقها السلطات الفرنسية بصرامة على العوائل اللاجئة والمهاجرة، والتي تصل في بعض الأحيان الى سحب الاطفال من العوائل، ووضعهم في دور رعاية خاصة، يحدث ذلك عندما تخالف تلك العوائل قوانين وتعليمات الاندماج والعيش في المجتمع الفرنسي. سوزان ربما كانت محظوظة بعض الشيء عندما تركت أجواء فرنسا البراقة عائدة الى بلدها العراق قبل أن يُؤخذ منها طفلها ذو الثلاث سنوات، إستطاعت أن تنجو من عقوبة سحب طفلها الى دور الرعاية الخاصة بالأطفال.

 

في نفس الوقت وتعدد الأمكنة في أوربا، هناك العديد من الحالات ممن وقعوا في المحضور وفقدوا أبنائهم بعد ترحيلهم الى مراكز رعاية خاصة بهم، ومما يؤلم إن بعض تلك المراكز لا تسمح لذوي الأولاد حتى برؤيتهم ومقابلتهم والاطمئنان عليهم وإطفاء نار الشوق عليهم، أي عذاب عاطفي تمارسه تلك السلطات بحق اللاجئين أو القادمين الجدد! هنا تتوقف الديمقراطية الغربية وتُسأل سؤالاً واضحاً متحدياً، أين حرية العيش والديانة والثقافات؟ لماذا تكيلوا بمكياليين؟

 

الروائي العراقي حسن بلاسم،  كتب من سجنه في فنلندا رواية أسمها (قانون سولولاند)، تبحث في أعماق معاناة اللاجئين في دول الشمال الاوربي، يقول بلاسم "نحن أمام غضب شديد من العنصرية والتعالي الأوربيين بسبب مفارقة الضيافةhospitality ، فدول الشمال تحتضن اللاجئين وتؤمن لهم "شروط الحياة"، لكنها في نفس الوقت تحولهم الى فئران تجارب لتغذية وطنية براغماتية وتفوق هش، تاركة اللاجئين أسرى الطبخ لإستعادة "طعم" الوطن المفقود".

 

القوانين العشرة للعنصرية الفنلدية، بحسب رؤية حسن بلاسم هي:

  • اياك أن تظن أنك ستصبح واحد منا.
  • لا تعتقد أننا نشعر بالأمان تجاهك.
  • لا تفكر أنك إن تحدثت لغتنا وأحببت قيمنا، ستكون ضيافتك دون شروط.
  • لا تتوهم أنك ستضيف لثقافتنا النقية اي جديد.
  • لا ترتكب أي خطأ، فعقابك سيكون مضاعفاً.
  • لن تتفوق أبداً على عرقنا الشمالي الأجنبي.
  • لن تحتال علينا بثقافتك الشيطانية.
  • ستبقى أضعف منا مهما فعلت.
  • لن نغفر لك أبداً اقتحامك حدود بلادنا.
  • لا تعتقد إننا نكترث لماضيك أو حاضرك أو مستقبلك.

هذه الممارسات العنصرية البراغماتية التي يشير إليها بلاسم في روابته، غالباً ما نسمعها أو نقرأها في عيون اللاجئين المهاجرين الشرق أوسطيين، ومنهم العراقيين في دول أوربا. هناك صعوبة في التأقلم وصعوبة في التَكيّف مع سياسات الإندماج التي تتبعها الدول الأوربية مع اللاجئين والمهاجرين، الذين غالباً ما تكون ثقافاتهم وسلوكياتهم مختلفة تماماًعن ثقافات وسلوكيات تلك الدول التي تستقبلهم، هذا الإستقبال الذي لم يكن يوماً خالصاً  كنمط من أنماط الضيافة والإحترام الغريزي، بل هو سياق ظاهره انساني وباطنه براغماتي عنصري، فهم يوفرون للاجئ أو المهاجر أبسط وسائل العيش عندهم، التي تشمل السكن والعمل والتعليم والرعاية الصحية، والتي يراها اللاجئ بالشيء الكبير والوفير، إذا ما قارنها مع نمط حياته البائسة السابقة في بلده الأم، ومقابل ذلك ينتظرون من اللاجئين أن يسلخوا جلدهم القديم ويُغيّروا معظم القيم والعادات والتقاليد التي تربطهم ببلدهم الأم.

ضريبة القبول للعوائل اللاجئة غالباً ما تكون كبيرة على المستوى الإجتماعي، فهم ربما يفقدون أبنائهم فلذات أكبادهم لأن أبائهم أساءوا التصرف معهم داخل البيت أو خارجه. المشاكل التي يعاني منها اللاجئ أو المهاجر الشرق أوسطي بمختلف أعراقه وأديانه، هي الإندماج في المجتمعات الغربية، فهم غالباً ما يستهدفون براءة الإطفال، ويستغلونهم كجواسيس على الأب والام، ماذا يحدث في البيت، بسؤال غير بريء " هل تتعرض للضرب داخل البيت؟" أو" هل يتشاجر الاباء داخل البيت؟" يجيب عنه الطفل عادةً، والكثير من هذه الاسئلة التي غالباً ما يجيبُ عنها الطفل لتكون فيما بعد دليلاً كافياً لسحب الاطفال من عوائلهم وتربيتهم بالطريقة التي يريدونها بعيداً عن عوائلهم.

 

القوانين والتعليمات تلزم تلك العوائل اللاجئة  على تسجيل الأطفال في رياض الأطفال بسنِ الثالثةِ، وإذا ما حاولت العائلة تأخير دخول أطفالها الروضة فأنها ستتلقى إنذار أول، واذا ما حاولت مره ثانية التهرب فأنها ستحصل على الإنذار الثاني، وسيبقى لها إنذار أخير اذا ما حصلت عليه العائلة، فأن طفلهم سينقل الى دور رعاية خاصة، وتحرم العائلة من رؤيته الى حين بلوغه الثامنة عشر، ومن بعدها يُخيّر أما العودة الى العائلة، أو الذهاب في طريق آخر. هذه الإجراءات موجودة في فرنسا والسويد  وبقية الدول الإسكندنافية وعدد من الدول الأوربية الأخرى.

 

فأنت لا تستطيع أن ترفض طلباً لطفلك لانك مراقب بشدة، فعندما تدخل مطعماً لتناول وجبة طعامـ، وصادف أن طلبَ طفلك شيئاً ما، ورفضت الاستجابة لطلبه، فأنك تفاجأ بأن هناك من يراقبك وينذرك بعدم رفض طلب الطفل مهما كان. أية حرية يتمتع بها الغرب مع هذه المراقبة اللصيقة الشديدة على حركات وسكنات العائلة داخل البيت وخارجه.

 

هذا الوضع أصبح يقلق العوائل اللاجئة ويشكل فوبيا لهم، ويرغم الكثير منهم إلى العودة الى الديار، فمنهم من فقد لذة العيش لأنه فقد عنصر التواصل الحقيقي بينه وبين أقرانه، فتجده كئيب بتمتع بكل مزايا الغرب لكنه نفسياً محطم وخصوصاً كبار السن الذين هاجروا في وقت متأخر من عمرهم، وحتى الشباب فالكثير منهم فقدوا عنصر الحيوية الشعبية والتلقائية الشرقية التي لا يجدونها في المجتمعات الغربية، فقط هم الاطفال الذين تُربيهم المدارس ومن ثم الجامعات، فهؤلاء يكتسبوا لغة وثقافة غربية كافية، تجعلهم متأقلمين مع الوسط الغربي الذي يحيط بهم.

 

على المستوى الشخصي أصادف العديد من هذه الحالات التي تحاول العودة الى الديار نادمة، بعضهم يعود بعد أن حصل على الجنسية أو الاقامة الدائمة، محققاً نصراً مادياً قد يلجا له في المستقبل إذا ما ساءت الظروف في بلاده، وبعضهم يعود تاركاً الثقافة الغربية ومغرياتها، مفضلاً بؤس الحياة في الشرق على ترف الحياة في الغرب، هذا الترف الظاهري الذي يعمق جروح القلب ويضيع دينهم وثقافتهم وأصولهم وعاداتهم الشرقية.

ختاماً ، فأن الغرب مهما تظاهر بإنسانيته وكرم الضيافة من خلال تعامله مع ملف اللاجئين، فأن ثمن تلك الممارسات الإنسانية، مقبوض وبإضعاف ولو بعد حين.

 

مقالات أخرى للكاتب