رأي
في مطلع تشرين الأول (أكتوبر) 2019، عانى فيلق القدس الإيراني- الجناح العسكري الخارجي للحرس الثوري- من انتكاسة في العراق، الجغرافيا التي تمثل له العمق الاستراتيجي والأيديولوجي والعسكري نحو الشرق الأوسط، إثر احتجاجات شعبية مفاجئة عمت شوارع ومراكز رئيسة في المناطق الجنوبية والوسطى ضد نشاط الفصائل التي تعرف بـ"الولائية المرتبطة به"، التي لم تكتفِ في توريط العراق بصراعات خارج الحدود فحسب، بل تحولت أيضًا إلى أذرع صلبة لحماية النظام السياسي، وبشكل أدق، مظلة للأحزاب السياسية والتيارات الدينية الشيعية في الاستمرار بحكم الدولة. والحال كان عنف الفصائل الولائية الموجه ضد المنتفضين الشيعة، وهو ما حال دون الإطاحة بنظام التصلب المستديم الذي تقوده تلك الأحزاب منذ عشرين عاما.
تبين احداث عقد كامل، ابتداءً من الانسحاب الأمريكي من العراق نهاية 2011 أهمية الفصائل الولائية لدى القيادة الشيعية الحاكمة، وبفضل خدماتها أخذت مناصب أمنية كبرى في الدولة كرئاسة هيئة الحشد الشعبي وجهاز الامن الوطني وجهاز الاستخبارات ومواقع حساسة في وزارتي الداخلية والدفاع، وبذلك تحولت وسيلة لإعانة منظومة الحكم الشيعي في إدارة نمط الحياة اليومية في العراق بطريقة تسهل عملية مكافحة أية مظاهر اجتماعية مناهضة للنظام السياسي، ونلفت الانتباه الى ان القمع الوحشي الذي تعرض له متظاهرو تشرين 2019 يؤكد مفهوم العمل المشترك بين "الفصائل الولائيةـ حكومة عادل عبد المهدي" في إزهاق أرواح المئات المحتجين وسلب حرية التعبير والتظاهر السلمي من المجتمع.
سياسة الهمجية المنمطة
لمواجهة المجتمع الشيعي الغاضب من السلطة الحاكمة، أتبعت الفصائل الولائية طريقة أشد رسوخا لمكافحته عبر خلق مظاهر الانحراف عن القانون، كبداية من بدايات اشغال المجتمع في البحث عن الحماية خارج الأطر القانونية، ومثال هذا الانحراف قيام الفصائل الولائية في تجنيد وجهاء وشخصيات اجتماعية وعشائرية ليكونوا بدلاء عن "الأجهزة الأمنية والقضائية" في حل النزاعات بين الافراد، وهكذا وسيلة تجبر المجتمع على اللجوء للفصائل لطلب الحماية منها حتى لو كان الامر، مقابل دفع "ديةـ أموال"، وهكذا يعني ان السلطة الشيعية سمحت للفصائل الولائية بممارسة "ابتزاز المجتمع"، وهكذا وسائط تهدف لضمان حماية النظام السياسي، ربما اشد الحلول الموضوعية في ضمان الهيمنة الإيرانية في التفويض دوليا عن العراق. لنلاحظ، ان المجتمع تحول من المتضامن على أساس وطني الى مجتمع اخر يقوم على التضامن الطائفي ـ الأيديولوجي. ومن المنظور هذا، نجد ان المنظومة الحاكمة تريد إيصال رسالة للمجتمع الدولي تظهر به على ان المجتمع العراقي "مجتمع مرؤوس وموجه بأكمله" وعلى الرغم من بنية متوازنة تسوده لكن كل عنصر به يفضل الإبقاء على مجموعته الطائفية، وبهذه الاستراتيجية نُقل المجتمع من مرحلة الاجماع على الوطنية الى الاغراق في صراع على الهوية الفرعية "اللاهوتية" التي تنتج حالة تتميز بالخرافات، و"الميتافيزيقية". وفي الواقع يعرف علم الاجتماع هذا السياق بسياسة "الهمجية المنمطة" التي تتعرض بها مباشرة المؤسسة العائلة الى الانحطاط في القيم الإنسانية والوطنية، بل يحل محلها تحديث قيم العنف والتطرف مما أدى بها الى الابتعاد عن الحياة الحاضرة، بالتالي تهدف طريقة "ابتزاز المجتمع" لضمان المكاسب الانتخابية للأحزاب الشيعيةـ الفصائل الولائية في كل موسم.
2018 عام الحرس الثوري
لابد هنا من بعض التذكيرات التاريخية، ان اتساع تمدد الفصائل الولائية على الدولة حصل بنهاية 2017 بعد انهاء سيطرة عناصر تنظيم الدولة الإسلامية على مدينة الموصل، اذ صارت الفصائل الولائيةا تمن على المجتمع في تحرير الأراضي. وفي هذا الإطار، لا يستطيع أي طرف في العراق ان يرفض لما تطلبه الفصائل الولائية لان التهمة حاضرة "الاصطفاف مع داعش او إسرائيل ـ امريكا"، لذا استحوذوا على ثروات الدولة ـ ابار نفط ـ عقارات ـ بساتين، علاوة على ذلك، قبضتهم على المنافذ الحدودية التي صارت تدر عليهم اموالا هائلة. اذ وفرت فرصة استثنائية تغلبت فيها فصائل الحرس الثوري ومن بينهم حزب الله في لبنان على العقوبات الامريكية في ممارسة تجارتهم. وكان ذلك من اجل المحافظة على ضمان استمرار العمل على أسلوب نمط "الاستغلال والسيطرة" هو تحويل الواقع الى مشهد دائم، عبر اعطاء شرعية قانونية لهذه المكتسبات وكانت الطريقة الوحيدة لنجاح هذا الرهان، هو قيام لوبي الحرس الثوري في مجلس النواب العراقي عام 2018 ترشيح السيد عادل عبد المهدي لرئاسة الوزراء خلفا لحيدر العبادي الذي ضيق الخناق على الفصائل الولائية واوقف ظاهرة ارسال المجندين من اسيا الى سوريا ولبنان واليمن عبر مطارات العراق ومكن من جهاز المخابرات وجهاز مكافحة الإرهاب كقوة مخيفة للفصائل الولائية، حتى صاروا يسوقون في الاعلام الدولي، انهما قوة عراقية ـ مدعومة أمريكيا والمضادة للقوة العراقية ـ المدعومة ايرانيا "الحشد الشعبي والامن الوطني".
في حين، تولى عبد المهدي الحكومة ـ حليف النقيضين " الفصائل الولائية ـ البيشمركة بارزاني" ، انتعشت فصائل الحرس الثوري لمدة عاما واحدا، ابتداء في نهاية 2018 وانتهاءً في بداية 2020، إذ الانهيار وقع بفعل غضب عراقي صاخب بدأ في تشرين 2019 ـ احرج اية الله السيستاني في حجرته في النجف ودفعه في اصدار موقف رسمي شديد اللهجة لضمان مناهضة رسمية لفصائل الحرس الثوري، ما اودى بإطاحة حكومة عبد المهدي الولائية، وثم لحقها غضباً امريكاً في كانون الاول 2020 ـ اسفر عن اغتيال جنرالي الحرس الثوري هما" قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس"، لتحريضهما في دفع مؤيديهما لمهاجمة مبنى السفارة الامريكية في بغداد. وبالتالي فان هذين الحدثين اربكا الحرس الثوري في العراق وجعلا من فصائلهم المتورطة في ارتكاب قمع وقتل وحشي ضد المتظاهرين في تشرين في تفتيت صفوفها بفعل فوضى عارمة، لجأ حينها زعيم حزب الله حسن نصر الله لمحاولة السيطرة عليها بفعل صراع حول من يكون البديل لسليماني وأبو مهدي المهندس مع وجود معارضة كبرى من قبل الفصائل الشيعية المرتبطة في المرجعية وفصيل سرايا السلام بقيادة مقتدى الصدر في تولي قائد كتائب حزب الله عبد العزيز المحمداوي ـ الملقب أبو فتك رئاسة هيئة الحشد الشعبي، ولكن الأخير نصب في المنصب بصفقة إيرانية داخلية جرت بين الاطلاعات ـ جهاز المخابرات الإيرانية والحرس الثوري وفقا لشهادة المقابلات والمراجعات.
2021 عام الاطلاعات الإيرانية
عرضت احتجاجات تشرين وحرق العلم الإيراني في النجف وكربلاء واقتحام القنصليات الإيرانية واغتيال سليماني وأبو مهدي المهندس، الحرس الثوري في الداخل الإيراني الى ضغوطات من قبل "الاطلاعات" التي اعتبرت ما قام به الحرس الثوري في تلك الفترة مسيئًا لسمعة الجمهورية الإسلامية كقوة في المنطقة، و تحويل العراق الى بيئة اجتماعية معادية للنفوذ الايراني بدلا من المحافظة على العمق السكاني الموالي لها. لذا فقد كانت تجربة حكومة عبد المهدي مريرة على نظام الجمهورية الإسلامية: اغتيال سليماني ورفاقه، وحرق صورتي المرشد الأعلى السابق والحالي مع فرض المزيد من العقوبات الدولية على طهران الى مستوى وصل فيه التومان الى انهيار كبير، وبذلك تطلب تحويل ملف إدارة منطقة النفوذ في العراق من الحرس الثوري الى "الاطلاعات" التي جاءت بحكومة مصطفى الكاظمي الذي حاول تقريب التفاهم بين السعوديين والإيرانيين، لكن مع تكليف محمد السوداني المرشح من قبل الإطار التنسيقي المحسوب على الحرس الثوري في تشكيل الحكومة، تتلاقى المعطيات التي نملكها بان الحكومة الجديدة في الظاهر يقال هي تدوير لنسخة حكومة عبد المهدي الذي اعتمد في ادارتها نمط فكر الحرس الثوري -الاشتراكي- الذي يرى المجتمع مكانًا تجريبيًا يتم فيه تبادل مستمر بين القوى البناءة والقوى الأخرى المدمرة، وطالما الخلافات لا تنفصل عن النتشة الاجتماعية، فيمكن استغلال العداوة السائدة لتطبيق مشاريع خاصة. تختلف عن رؤية حكومة الكاظمي المحسوبة على الاطلاعات التي ترى من تعدد الارتباطات والمصالح وتشابك الانقسامات ومحاولات الصلح التي تقوم به النخب يعزز من استقرار الديمقراطية الحديثة في العراق ويمكن تجنب صعود التطرف مع المحافظة على ثقافة وظروف التعبئة والحشد لأية طارئة تتعرض لها الدولة.
محمد شياع السوداني
بعيدا عن المؤهلات الاكاديمية والخبرة في الإدارة، يُعرف السوداني في الراي العام العراقي بانه اليد الأيمن لزعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي ـ سياسيا ينتمي الى حزب الدعوة الإسلامية رغم انه يدعي أنه مستقل. بينما فقهيا، يتبع مرجعية السيد محمد باقر الصدر والمرجع الحائري، وطالما هو من هذه البيئة الفقيهة فيعنقد المراقبون ان يكون متأثرا بمرجعية المرشد علي خامنئي بناءً على وصية الحائري لمقلديه والمتأثرين به بعد اعتزاله، لكن هذا يبقى تحليلا وليس معطى حقيقيا. الواقع من أول خطاب له فور تسلمه مقاليد التكليف في تشكيل الحكومة من قبل رئيس الجمهورية المنتخب عبد الرشيد لطيف اظهر شخصية دراماتيكية كالتي برز فيها نوري المالكي في بداية ولايته الأولى ـ ذلك الرجل الشيعي الليبرالي الديمقراطي الحليف للولايات المتحدة الامريكية والمناهض للنفوذ الإيراني- بالتالي الخطاب يبقى دراماتيك طالما لم يقدم برنامجا حكوميا عمليا محددا في زمن يحقق به سيادة القانون ومكافحة الفساد وتقويض هيمنة الفصائل الولائية وشعور حقيقي لدى الافراد بالبرامج التنموية والخدماتية.
ويبقى السوداني الذي استمع له العراقيون في خطابه الأول وفي اذهانهم صورة قتال شهر اب 2022 في المنطقة الخضراء -بغداد وقرب القصور الرئاسيةـ البصرة. جاء للمنصب بترشح غرفة الإطار التنسيقي والمحسوب على الحرس الثوري، وهذا قد يطرح معها أسئلة حول ماهي الفرص التي قدمها السوداني لجبهة الحرس الثوري "الإطار التنسيقي"؟
تتلاقى القراءة الواردة في المقابلات حول ان الظروف الاستثنائية اتاحت وصول السوادني لمنصب رئاسة الحكومة، اذ ان المنافسين له للمنصب في الإطار التنسيقي هم مستهلكون ومرفوضون امريكيا وايرانيا، امثال "فالح الفياض وطارق نجم ونوري المالكي"، اضافة الى مرشحين ضعفاء طرحوا مثل "عبد الحسين عبطان" عن تيار الحكمة و"قاسم الاعرجي" عن منظمة بدر. علاوة على ذلك تبقى معارضة مقتدى الصدر الشديدة لترشيح السوداني لمنصب رئاسة الوزراء يجعل من الإطارين بقيادة نوري المالكي بالتمسك به عنادا لكسر إرادة الصدر. لكن المخفي الذي يشتغل عليه السوداني بشكل شخصي غير جماعي مع الإطار التنسيقي مختلفا:
1/ ان الصدريين لديهم اتفاق مع السوداني لضمان مشاركتهم في كابنته الوزارية لمنحهم مناصب أمنية كبرى كجهاز المخابرات وإدارة مشتركة للحشد الشعبي التي يهيمن عليها الإطار التنسيقي.
2/ الالتزام بتوجيهات الصدر الذي يريد التقاسم مع الإطار في كتابة البرنامج الحكومي القادم، رغم ان بيانات الصادرة عما يعرف بـ"وزير القائد" الذي يمثل مقتدى الصدر المعادية للسوداني ماهي الا لإرضاء لجمهور الصدر الشعبوي الذي يشعر بالهزيمة امام جمهور الإطار التنسيقي مع خسارة أرواح 50 شخصا في معارك أب 2022.
إن جميع التوقعات ورادة حول مصير حكومة السوادني خاصة مع وجود خصم ثوري قوي لها يملك سجل حافل في المواقف العنيفة المتناقضة، لكن الوارد هذه المرة. هل سينجح الحرس الثوري في حماية كابنة السوداني لتكمل حياتها الدستورية؟ خاصة له تجربة فاشلة بحماية حكومة عبد المهدي التي كلفتهم خسارة حياة قاسم سلماني وأبو مهدي المهندس.
بعيدا عن التكهنات، تبقى التأثيرات الإقليمية على حكومة السوادني لاعبا أساسيا في تحقيق الدعم والنجاح. ومن المتوقع من قبل المراقبين ان استراتيجية السوداني هي المحافظة على الإنجازات الدبلوماسية التي حققتها حكومة مصطفى الكاظمي خاصة في إطار تقريب وجهات النظر بين الرياض وطهران، لكن إدارة اكمال الإنجازات الدبلوماسية بالنمط والسردية التي يريدها الحرس الثوري وليس كما يرغب لها مقتدى الصدر والاطلاعات التي تناغم مع خطاب الصدر اذ في متابعة لصحفها في إيران تظهر تعاطفها مع حراك الصدر وتفرض شيطنة حكومة مصطفى الكاظمي.
ومن هنا، نستوحي من الخطاب الأول للسوداني ان هناك رغبة مكثفة بتحقيق الاستراتيجيات والعقلانية في الإدارة وزيادة الأرباح وتقليل الخسائر وتفويت ضياع الفرص وتشجيع السوق والمنظمات والشبكات، وبالإجمال، يبقى الخطاب تخريجا كلاميا ويبقى المجتمع بحاجة الى بنية منطقية للعمل.
أحمد حسن: صحافي وباحث سياسي
ماجستير2 جغرافيا سياسية وعلاقات استراتيجية
زميل في المركز الفرنسي للأبحاث حول العراق ـ باريس
زميل في المعهد العلاقات الدولة والاستراتيجية ـ IRIS
المصادر
1 اضغط هنا
2/ مظاهرات العراق: هل تعكس "تذمرا شعبيا" من النفوذ الإيراني؟
3/ الإندبندنت: كيف تسيطر الميليشيات المدعومة من إيران على العراق
5/ من هو عبد العزيز المحمداوي قائد أركان الحشد الشعبي العراقي؟
7/ https://www.noonpost.com/content/35601
8/ https://www.almayadeen.net/articles/الملف-العراقي-وحزب-الله-اللبناني-المواقف-والثوابت
10/ https://7al.net/2022/04/28/تمرد-العشائر-في-العراق/wafaa-g/reports-and-investigations/
11/ اضغط هنا
12/ اضغط هنا
13/ اضغط هنا
14/ اضغط هنا
15/ اضغط هنا
16/ اضغط هنا
17/ اضغط هنا
18/ اضغط هنا
19/ اضغط هنا
20/ اضغط هنا
21/ اضغط هنا
22/ اضغط هنا
23/اضغط هنا
24/ اضغط هنا
25/ اضغط هنا
26/ اضغط هنا
27/ اضغط هنا
28/ اضغط هنا
29/ اضغط هنا
المقابلات:
1ـ منصور جبار ـ قياد سابق في حزب الدعوة الإسلامية تنظيم العراق
2ـ واثق الوائلي ـ باحث سياسي
3ـ منتظر كاظم ـ صحافي وباحث
4ـ ز. ق ـ مسؤول في التيار الصدري
5ـ مهند محسن ـ محلل قضايا الامنية
6ـ ف ـ قيادي في إطار التنسيقي
7ـ مجتبى الصادق ـ صحافي إيراني مقيم في طهران