رأي
يستعرض شاب في إحدى الاقضية العراقية البسيطة الكسولة أوائل تسعينيات القرن الماضي صفوف الكتب في المكتبة العامة مندهشا بالمطبوعات السورية واللبنانية أما المصرية فهي الأكثر إثارة، فالمكتبات العراقية العامة وخاصة في المناطق النائية توقفت عن التزود بالمطبوعات العربية بداية الثمانينيات لتبقى محتفظة بسلاسل ترجمات المسرح اليوناني وكتب الفلسفة والادب التي صدرت في الخمسينيات والستينيات بينما تتدفق عليها المطبوعات العراقية التعبوية.
تؤدي المكتبة بهذا الشاب ليتصور إن الاتجاه العام للمجتمعات في تلك البلدان كان علمانيا، تنويريا، يساريا، وتزداد قناعته بما يشاهده من الافلام ويسمعه من الاغاني والموسيقى التي تنتجها هذه البلدان لكن نشرة الاخبار تضعف هذا التصور، حيث تسيطر حركات التشدد الديني والتطرف على نفس الدول، ويقال في التفسيرات السريعة والتحليلات العابرة ان ما يحدث في التسعينيات هو حالة نكوص وتشدد تخالف الحال الذي كان موجودا قبل ذلك، لكن يظهر لاحقا إن هذه التفسيرات مجرد أوهام وتخيلات علمانية ويسارية نتيجة وعي مزيف.
كانت الصدمة كبيرة لذلك القارئ الشاب عندما عرف ان لبنان الذي يغرق العالم العربي بالمطبوعات الفرويدية واليسارية والليبرالية وينتج باستمرار شعراء متمردين وتغرد فيه أجمل الاصوات، يمنع الزواج المدني ويقصر سلطة عقد الزواج على رجال الدين ويحرم الزواج بين الاديان والطوائف ومحكوم بنظام تقاسم طائفي وتخوض فيه مليشيات من كل الاديان حربا طاحنة.
أما مصر التي منحت هذا الشاب سلسلة من روائع المسرح اليوناني وكتب الفلسفة الرائعة والروايات المدهشة فتبين إنها غارقة اجتماعيا في التشدد وتبين للشاب ان التنظيمات الدينية التكفيرية المتشددة كانت موجودة وقوية وراسخة اجتماعيا ولديها ايضا تنظيم عسكري كان يمكن ان يسيطر على مصر لولا ان تنظيما آخر إستبق الفرصة، كما تبين ان القبلات الساخنة والتنورات القصيرة في الافلام لم تكن مقبولة ولا تمر بسهولة إلا بسبب قوة أمنية قاهرة تدير الحريات فتمنع ما تريد وتظهر ما تريد، ولا يختلف الحال كثيرا في سوريا.
بإختصار كانت النتيجة إنه تعرض لعملية تشويه وعي قام به مثقفون ومؤسسات ثقافية تتحكم بها السلطة أو حتى بعض الاحزاب المعارضة لتكوين صورة مزيفة عن المجتمعات في محاولة لتغييب الواقع الاجتماعي الذي يسيطر عليه التشدد الديني والطائفي والعشائري وحقيقة إن المدن المبهرة ومطابعها التي لا تتوقف وصالاتها المتقدة ومعارضها الفنية تدار من مشايخ بدائيين لعشائر وطوائف يرتدون البزات العسكرية أو البدلات المدنية الفاخرة، وهؤلاء المتظاهرون بالرقي والنعومة يتحولون بسرعة الى جلادين في أقبية محمية بأنها مؤسسات رسمية وأحيانا بمليشيات علنية يحاولون سلخ جلد التشدد الديني للمجتمع كما يسلخون جلد اليسار الحزبي لكن الفرق انهم ينكرون وجود الاول معظم الوقت ويعترفون بوجود الثاني ويضخمونه أحيانا ليجعلوا منه العدو الاول وربما الوحيد ليستخدموا إحدى الجرائم في التغطية على الاخرى، ويعرف الشاب ان هناك منتجات ثقافية وفكرية تسير في الاتجاه المعاكس لكن الحكومات تلاحقها وتمنعها.
تاريخ الخديعة هذا يدفع الى التدقيق في واقعية البهرجة والاحتفالات الثقافية الراهنة التي تقيمها دول صاعدة في الخليج، بالمال أولا، أنظمة تريد ترسيخ وجودها مع بداية القرن الحالي مثلما فعلت أخواتها الهرمات في بدايات القرن الماضي، المنطقة تستنسخ التجربة القائمة على حرمان المجتمع من التعبير الحر السلمي عن نفسه ووضعه في برامج تنميط سياسية تهتم بالمظاهر فقط لتسويقه كمجتمع متعايش ومسالم ومنفتح، أنظمة تريد إنتاج ستار كثيف يمنع العالم من رؤية التشدد الديني والعشائرية والطائفية الراسخة ويمنع المجتمعات من طرح أزماتها للنقاش العام ومعالجتها قانونيا وسياسيا عبر مؤسسات دستورية، هذه الانظمة تنكر الأزمات الوجودية لمجتمعاتها مثلما فعلت أخواتها الهرمة في العراق ومصر وسوريا ولبنان والبقية المعروفة، طوال القرن العشرين، والتي انهارت أبنيتها بعدما تزايد السكان وتناقص المال وتعبت الاجهزة الامنية وتحولت المؤسسات الاعلامية الى دوائر روتينية غير فعالة فإنفجر التشدد الديني والانقسام العشائري الذي كان مكبوتا ومقموعا وتناثر الغلاف الحداثي الهش بسرعة وسهولة لأنه مزيف ليتبين ان السلطة التحديثية هرست المجتمع وتركته في أيدي الآفاقين لينتجوا مزيدا من الزيف باسم الدين والتراث هذه المرة.
سيقف أحد الشبان في الخليج يوما ما أمام المنتجات الثقافية التي تنتجها الانظمة الحالية ويتابع البقايا الهزيلة لعشرات الاحتفاليات والمهرجانات في دوراتها العشرية وقد خف بريقها وهزلت مضامينها وتحولت الى مرتع لموظفين متبطلين، كما يحدث اليوم في العراق ومصر وسوريا ولبنان، باعتبارها إرثا يسجل النزعة التقدمية التحديثية المتمدنة ويسأل بسذاجة بريئة كيف إنتقلت المجتمعات من حال الى حال؟! فيبكي الى جواره مثقف عجوز مؤمن بالصورة الوهمية (كما يحدث الآن في العراق) ويتحسر على أيام الخير والتقدم والتآخي رغم انه يستذكر أيضا عشرات من رفاقه المثقفين المغضوب عليهم والمغيبين والمجلودين والمذبوحين على أيدي قادة التنوير والعلمنة والتحديث.
تحديث المجتمعات لا يتحقق بالادوات الحكومية القمعية كما في تجربة الدول العربية وتركيا (تجربة أتاتورك) وإيران (تجربة الاسرة البهلوية) ولن يحدث في الخليج مهما أنفقت الدولة على المنتجات الثقافية، وإنما يتحقق التحديث بالجرأة في الاعتراف بالازمات الاساسية ومعالجتها بعقلانية ورضا.