ثقافة

الأئمة الإثنا عشر.. جدل التاريخ والمعتقد

الأئمة الإثنا عشر.. جدل التاريخ والمعتقد

د. حسام سعد حسن

يبدو ان الباحث المتتبع لتاريخ ائمة الشيعة الاثني عشر والراصد (المحايد والموضوعي) لحقيقة افكار الائمة وعقائدهم الاساسية في الامامة والفقه والسياسة، سيواجه قدراً كبيراً من الغموض والالتباس يلف تلك المواقف وشخوص اصحابها، بالخصوص ما نقل عن الائمة المتوسطين (الباقر ومن تلاه من الائمة) من عقائد وشرائع ومواقف مختلفة، ولا نغالي في القول بانهم (اي الائمة الاثني عشر) من الشخصيات الاكثر جدلاً في تاريخ الاسلام من هذه الزاوية، فانقسام فرق المسلمين بتقديمها قراءات متباينة (حد التناقض) عن الائمة الاثني عشر اعتماداً على شواهد تاريخية وروائية مختلفة، جعل البت في صحة تلك الشواهد وتبني موقف سليم على ضوئها أمر غاية في التعقيد الا بترجيح بعضها ودحض البعض الآخر اعتماداً على مواقف ومناهج ايدلوجية بحتة وهو ما ينافي البحث والاستقصاء السليمين. 

 

وقبل استعراض الاتجاهات العامة لدى جماهير الاسلام من الائمة الاثني عشر، لا بد من التطرق او التنويه لأمرين او اشكالين مهمّين، احدهما تاريخي والاخر منهجي.

 

تاريخياً لم يحدث فرز فكري او معرفي (بين اهل السنة وفرق الشيعة) الا في وقت متأخر نسبياً مقارنةً بظهور الخوارج والمرجئة والمعتزلة وغيرهم من الفرق الاسلامية، فانبثاق التشيع بعد وفاة النبي اصطبغ بصبغة سياسية بحتة، وإنّ الموقف السياسي من الامام علي بن ابي طالب واهل بيته هو ما كان يميز بين جماهير الاسلام دون وجود اي مواقف فكرية لافتة تميز المشايعين لعلي بن ابي طالب عن جمهور المسلمين، ومحاولات المذاهب المتأخرة (بعد القرن الرابع الهجري) من تصنيف الشخصيات الاسلامية المبكرة (صحابة، تابعين..) الى سنة وشيعة (بالمفهوم المتأخر للمصطلحين) غاية في الاعتباطية والتسطيح. 

 

اما الاشكال المنهجي فيكمن في قراءات علماء الاسلام للأئمة وقراءة الائمة لذواتهم، فبسؤالٍ مختصر ، هل يحق للائمة تعريف ذواتهم بانفسهم (بشكل مشروع وموضوعي) دون الارتكاز لشرعية خارجية (قرآنية مثلا) ام لا ؟، والنقاش في هذا الاشكال شائك وعويص وليس له حل الا بتبني موقف عقدي معين (شيعي او سني) بقبول او رفض مرجعيات الباقر والصادق وغيرهم من الائمة الاثني عشر. 

 

ولنستعرض الان اهم الاتجاهات او القراءات لعقائد الائمة الاثني عشر مع مقومات كل منها:

 

الاتجاه الاول: هو الاتجاه العام والرسمي لدى جمهور اهل السنة والجماعة، فهم يعرِّفون الائمة الاثني عشر كسادة هاشميين مبجّلين وموقّرين وهم جزء من نسيج الامة الديني والفكري دون منحهم ميزة او امتياز عن غيرهم من فضلاء وعلماء الاسلام باستثناء قرابتهم الخصيصة من الرسول، فقد حظي ائمة اهل البيت بالقبول العام من هذه الجماهير (السنية) من خلال قبول رواياتهم وآرائهم وضمنوها (اي علماء السنة) في تراثهم الديني (تفاسير، سنن، فقه..)، فقد قال الحافظ شمس الدين الجزري (وثبت عندنا أن كلاً من الإمام مالك وأبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - صحب الإمام أبا عبدالله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، حتى قال أبو حنيفة: (ما رأيت أفقه منه وقد دخلني منه من الهيبة ما لم يدخلني للمنصور)، ولم تظهر ازاء ائمة اهل البيت تحفظات لافتة او مهمة باستثناء تحفظ البخاري وبعض مشايخه من الرواية عن جعفر الصادق (سيتبين لاحقا السبب المفترض لذلك) او تحفظات (ابن تيمية او ابن كثير) وهما من عصور لاحقة متباعدة (خمس او ستة قرون بعد زمانات الائمة) ولا يمكن ان يكون لتلك التحفظات مبرر موضوعي سوى التحيزات الايدلوجية لهذين الرجلين.

 

مقومات (الاتجاه الاول): سبق ان بيَّنا أنّ مرويات اهل السنة عن الائمة دليل على صحة الاتجاه المذكور، بل تم وضع أئمة اهل البيت في اعلى درجات الوثاقة، وفضلاً عن ذلك فأنّ هناك مبرراً وجيهاً يدعم هذا الاتجاه وهو مدنية الائمة ومواليدهم وحيواتهم في المدينة المنورة منذ هجرة النبي ولغاية ترحيل الامام الهادي (الامام العاشر) سنة ٢٤٢ هجرية الى سامراء (زمن المتوكل العباسي) في دليلٍ على انخراط واندكاك الائمة في مجتمع المدينة وهو مجتمع سني (بامتياز) في حين كان العراق (الكوفة تحديدا) القاعدة الشعبية وموطأ الشيعة والتشيع للائمة، وان هذا الفصل الجغرافي (بين المدينة المنورة والكوفة) يشي بقطيعة فكرية وعقدية بين (سنية) الائمة المدنية (المفترضة) وشيعية الشيعة في الكوفة البعيدة نسبياً.. ولا بد في هذا المقام من لفت الانتباه الى ان شراسة المواجهات بين علماء اهل السنة وخصومهم من الفرق الاخرى (المعتزلة مثلا) تقطع الطريق امام فرضية وجود مداهنة او مجاملة للائمة الاثني عشر على حساب العقيدة (الرسمية) لاهل السنة وافكارهم.

 

‏الاتجاه الثاني: يمثل هذا الاتجاه الموقف الرسمي للشيعة (الاثني عشرية) بدءاً من ما بات يعرف بزمن الغيبة ولغاية الان، حيث يذكر الشيخ المفيد (ت٤١٣هـ) في كتابه عقائد الامامية بصدد تعريفه بعقائد الشيعة في الائمة الاثني عشر: لا نعتقد في أئمتنا ما يعتقده الغلاة والحلوليون (كبرت كلمة تخرج من أفواههم)، بل عقديتنا الخاصة أنهم بشر مثلنا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإنما هم عباد مكرمون اختصهم الله تعالى بكرامته وحباهم بولايته، إذ كانوا في أعلى درجات الكمال اللائقة في البشر من العلم والتقوى والشجاعة والكرم والعفة وجميع الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة، لا يدانيهم أحد من البشر فيما اختصوا به. وبهذا استحقوا أن يكونوا أئمة وهداة ومرجعا بعد النبي في كل ما يعود للناس من أحكام وحكم، وما يرجع للدين من بيان وتشريع، وما يختص بالقرآن من تفسير وتأويل ….)، ولغرض دفع شبهة انسجام الائمة مع الاتجاه الاول (السني الرسمي) فسَّر الشيعة العديد من عقائد وافكار الائمة ومواقفهم المختلفة (والمخالفة للاتجاه الشيعي الرسمي) بانها كانت بدافع التقية، فالتقية تعني ان يكون للامام شخصية ظاهرة (للعوام) واخرى باطنة (للخواص)، فالتقية مثلت شخصية مزدوجة تحفظ حياة الامام من جهة وتحافظ على الشيعة والتشيع من جهة ثانية، فقد روت الشيعة عن الصادق (الامام السادس) قوله " التقية ديني ودين ابائي عليهم السلام" وقوله "لا دينَ لمن لا تقية له".

 

مقومات الاتجاه الثاني: ينطلقُ الشيعة في اعتقادهم بعصمة وامامة الائمة (الالهية) من اكثر من محور، فالظروف السياسية والضغوط النفسية المسلطة على الائمة (المتقدمون منهم خصوصا) من قبل السلطات السياسية (الاموية او العباسية) مهدت الارضية لهذا الاتجاه، فمن غير المعقول ان تكون افكار ومواقف الائمة منسجمة مع الخط الفكري (السني) العام (كما يدعي انصار الاتجاه الاول) وهي في ذات الوقت تتعرض لتلك الضغوط والمصاعب، وبتقديرنا فان السبب الاهم الداعم لهذا الاتجاه، هو الكم الهائل من الروايات المنسوبة للباقر والصادق والتي تبلغ الآلاف وقد استفاضت بها مؤلفات رواة الشيعة مثل بصائر الدرجات والكافي وكمال الدين والغيبة وغيرها من المصادر الكاشفة عن حقيقة معتقدات وصفات الائمة، فاجماع الشيعة (طبقة بعد طبقة وصولاً الى زمن التأسيس للمذهب الاثني عشر في زمن الشيخين (المفيد والطوسي) على تبني تلك العقائد لا يمكن تبرير الافتراض بزيفه بمبرر موضوعي او موقف غير مؤدلج ولا بد (في نهاية المطاف) من حيازة قدر من الصدق والاطمئنان في تلك الروايات المنسوبة للائمة وبالتالي صحة ادعاءات انصار هذا الاتجاه.

 

الاتجاه الثالث: يذهب انصار هذا الاتجاه (المتنامي في العقود الاخيرة والذي يمكن وصفه بالاصلاحي او التنويري كما يحلو لاصحابه وصفهم به) الى تبني رؤية عن الائمة الاثني عشر تتماهي (الى حد بعيد) مع رؤية الاتجاه الاول (السني الرسمي) مع الاحتفاظ بمسافة او خصوصية لائمة اهل البيت في بعض مواقفهم السياسية او الفقهية وذلك بتبني نظرية (علماء ابرار) ويمثل احمد الكاتب وكمال الحيدري (في مواقفه الاخيره) ابرز منظري هذا الاتجاه. 

 

مقومات الاتجاه الثالث: يستند انصار هذا الاتجاه الى جملة من المرويات في كتب الفريقين   (السنة والشيعة) تثبت براءة الائمة من الغلو في اهل البيت ولعن الغلاة من متطرفي فرق الشيعة (كأبي الخطاب الاسدي وغيره).. يرفض الموقف الشيعي الرسمي (ممثلاً بالاتجاه الثاني)هذا الاتجاه (الثالث) او هذه الفرضية (السنية المتنكرة) من خلال رفض تلك الروايات إما بداعي التقية او بكونها موجهة اصلا لبعض الفرق (الغالية) من فرق الشيعة وليس لعموم النظرية الامامية الالهية وانصارها والتي يمثلها الاتجاه الثاني.

 

وكما رأينا فان لكل فريق من انصار الاتجاهات الثلاثة المذكورة وجهات نظر ومواقف تدفعهم لتبني قراءة عن ائمة اهل البيت تناقض القراءات والرؤى الاخرى، وان المؤمن البسيط فضلاً عن الباحث النَبه يستثقل الزعم بصحة ورجاحة احدى تلك الرؤى الا بتبني موقف ايدلوجي سابق على البحث.

 

هذه الاتجاهات المذكورة هي اتجاهات عامة تعكس زوايا النظر المختلفة للائمة الاثني عشر من قبل المذاهب السنية والشيعية، وبالامكان الحديث او مناقشة اتجاه رابع، ذو منهج تاريخي، يمزج بين الاتجاهات الثلاثة المذكورة من خلال تدرج مواقف وعقائد الائمة انفسهم، فخلو او ندرة الأخبار المروية عن الائمة المتقدمين (علي والحسن والحسين والسجاد) في المصادر الشيعية مقارنة بازدهارها (النسبي) في مصادر اهل السنة يشي بصحة رأي الاتجاه الاول وتطابقه مع مواقف اولئك الائمة (باستثناء السياسي منهافيما تتدرج مواقف الائمة اللاحقين (الباقر صعودا) من الاتجاه الثالث وصولاً الى الاتجاه الثاني (الذي يمثل الموقف الرسمي الشيعي)، حيث إنَّ هذه القراءة لا تعكس تناقضاً في اراء الائمة الاثني عشر بل ترصد تغيًّراً متدرجاً في مواقفهم العقدية بفعل تغير المناخات الفكرية والسياسية طيلة القرنين الهجريين الاول والثاني.

 

لم نستهدف في هذا المقال إثارة حفيظة فئة او جماعة بعينها، بل الهدف استفزاز ملكة النقد والسؤال والتفكير بحقيقة نخبة اساسية ومكون مهم من مكونات الهوية الاسلامية اليوم وهم ائمة اهل البيت، بعيداً عن قبول اي كليشيهات جاهزة او ايديولوجيات مفترضة.