ثقافة

صندوق دعم السينما بين جدلية الماضي وطموح الحاضر

صندوق دعم السينما بين جدلية الماضي وطموح الحاضر

رسل أحمد

"أنتَ لست في المسرح"، العبارة ليست لي، بل قرأتها قبل أكثر من عشر سنوات تقريبا، في كتاب قديم بورق أصفر وبلا غلاف، لجبرييل مارسيل الفيلسوف الفرنسي والناقد الموسيقي والدرامي، والمدير لأكاديمية الفنون الجميلة في فرنسا، وأيضاً علمت فيما بعد أنه كاتب مسرحي متميز ويعد واحداً من أهم مثقفي عصره، وضعَ لنفسه هذه القاعدة الحياتية المهمة، عثرت على الكتاب بمحض الصدفة فوق كومة قمامة. لم أعرف عنوان الكتاب ولا ماذا قال في صفحاته الأولى المنتزعة بيد القدر أو الصدفة، لكني أتذكره جيدًا، كان عبارة عن سؤال يوجههُ مارسيل إلى نفسه، وهو يمشي في شوراع مدينتهِ الأوروبية، فيرد عليها بحكايات، واعترافات وهواجس داخلية، وكان يبدو حكيماً للحديث النفسي هذا، حينها صادف شخص رمى علبة سجائر على الأرض، وقال له بصوت عالٍ، أنت لست في المسرح، وكأنه يقول إلى نفسه، بهذه العبارة المختزلة، أن الإنسان لا يُمكن أن يبقى متفرجاً فقط، بل عليه أن يشارك ويبدأ من بناء نفسه وبناء بلده، والفرجة على الاشياء تبدو غير حكيمة، وغير واقعية، ‏وهذا يعني: أنتَ لا ينبغي أن تكون مُجرّد متفرج. وهذا ما قادني للكتابة عن هموم الشباب السينمائيين.

 

في البداية علينا أن نعرف أن السينما تعد من المشاريع الثقافية المهمة لأي بلاد، وهي خزينة صورية أرشيفية،تُعرف العالم بهذه البلاد، وتُسلط الضوء على أهم المشاكل الموجودة فيه. إذن تعتبر جُزء من الذاكرة العراقية الكبيرة بعطائها، وجزء كبير من معرفة العالم بالهوية الوطنية.

 

تاريخ السينما في العراق: 

في عام 1959 أنشأت اول مؤسسة حكومية للسينما هي مصلحة السينما والمسرح لكنها لم تباشر الانتاج إلا في النصف الثاني من الستينات ولحين ظهور افلام المؤسسة أستمرت تاريخ السينما العراقية وتيرة الانتاج السينمائي الخاص، علماً ان المصلحة قد اشترت المعدات والاجهزة الخاصة التي كانت لدائرة الاستعلامات الاميركية في بغداد والتي كانت تقوم بانتاج الافلام الاخبارية القصيرة قبل قيام ثورة 14 تموز 1958. وكانت الافلام التي قدمتها مصلحة السينما والمسرح أفلاما وثائقية ذات صلة بأحداث الثورة فقط في تلك الفترة وأستمر الحال الى عام 1966، استثمر القطاع الخاص للانتاج السينمائي ضعف القطاع العام في الخمسينيات فنشط عبر محاولات فردية او تجمعات فنية في ساحة الانتاج السينمائي الروائي، وكان ان قدم هذا القطاع المنافس عددا من الافلام التي حاولت مجاراة الوعي السياسي بضعف بالغ مثل الافلام: (إرادة الشعب) و(انا العراق) و(من اجل الوطن) والتي واجه منتجيها ردود فعل المشاهدين المعاكسة كما قدم هذا القطاع مجموعة من افلام المطاردة والجريمة والرقصات والاغاني.

 

وبعد انتعاش القطاع العام السينمائي العراقي الاصيل توقف القطاع الخاص عن الانتاج بعد تراجع كبير في امكانياته فكان اخر ما عرض لهذا القطاع "الزورق"، وكان الاستقبال الذي لقيه من النقاد في العراق والكويت حيث عرض اخيرا بمثابة رصاصة الرحمة التي اطلقت على هذا القطاع .وخلال الفترة التي سبقت عام 1966, قدم القطاع الخاص من شركات وافراد عدة افلام لا تخرج طبيعتها عن الافلام المقلدة للافلام المصرية باستثناء فيلم (قطار الساعة 7) المعروض في عام 1961 لمخرجه حكمت لبيب أواديس الذي يعتبر واحداً من المخرجين المتميزين.

 

ابتدأت الويلات السينمائية ببعض الاجراءات التي كانت تتخذ بعد عام 1980، حيث كان المنقرض صدام حسين، يمنع طلاب الفنون الجميلة الذي يرسبون، والذين يتخرجون من اكاديمية الفنون الجميلة، والذين يرسبون في الامتحان، يرسلهم الى الحرب مع إيران، وبهذا تم اجهاض حقهم في مزوالة مشاريعهم الفنية، وفي تلك المرحلة تحول الخطاب السينمائي الى خطاب دعائي هدفه تلميع صورة السلطة وبرزت هذه الظاهرة وتوسعت آنذاك، ،وبهذا أصبحت السينما خاضعة لسيطرة الفكرة الحزبية، وتحول بعض السينمائيين الى ادوات لتلميع صورة النظام، فيما ان من اهم صفات السينمائي الحقيقة، هي أن يكون حراً متمرداً على كاميرتهِ.

 

ولا ننسى أبداً كعراقيين عندما منعت الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1990، تحت طائلة البند السابع، الافلام الخام، بحجة أن فيها مادة (السيليلويد)، والتي تُصنف ضمن المواد الكيميائية التي تدخل في التصنيع العسكري، بعدها تم احتلال العراق من قبل الولايات الأمريكية، وتم تخريب كل البنى التحتية الأساسية السينمائية، الشباب لم يفقدوا الأمل واستمروا بتحقيق أحلامهم في إنتاج الأفلام من جيوبهم الخاصة، إلى هذه اللحظة، لكنهم لاقوا صعوبات لا يمكن لبشر أن يتحملها، وبرحيل النظام السابق، زادت الأمور صعوبة كبيرة،يذكر لي أحد المخرجين الذين انجزوا بعض الأفلام التي وصلت للعالمية، إنه كان يصور في عام 2004 وسط المخاطر، في احدى مناطق بغداد، وتعرض للضرب والخطف والشتائم الوضيعة والإهانة، ،وتم تخريب معداتهِ التصويرية،،بين اصوات الرصاص والدبابات والغارات من قبل بعض الميلشيات، الذين يجدون في الفنون ومنها السينما خطر على مشاريعهم. وقد اضطر في النهاية ان يهاجر إلى خارج العراق، حاله حال الكثيرين ممن قرروا الهروب خوفا او يأسا وسط هذا التدهور.

 

صندوق دعم السينما:

وفي 2010 قام الشباب باقتراح للسلطة وهو تفعيل "صندوق لدعم السينما" وهو صندوق تقوم الدولة بتقديم المساعدة المالية من خلاله ليقوم بإنتاج الأفلام السينمائية القصيرة والروائية الطويلة والوثائقية، وهو هيئة مستقلة، يقودها ما يقارب العشرين شخصا، هذه الهيئة تكون مشرفة على توزيع المسؤولية المالية، وجزء من المسؤولية الفنية، مع مختصين، والصندوق هو مشروع يساهم في استدامة الروح الإقتصادية في البلد، واستدامة السينما وتنميتها وجعلها قطاع من القطاعات المهمة في البلد، وتحويل جُزء منها إلى استثمار مهم، فلدينا من الخيرات كثيراً، مقارنةٍ بما تمتلكه اي دولة عربية، أخرى وصلت إلى مهرجان (كان) بإنجاز يحسب لها.. أيضاً الصندوق موجود في أغلب الدول العربية والغير عربية،مثل المملكة العربية السعودية، والأردن الهيئة الملكية الهاشمية لدعم الأفلام، وفي المغرب المؤسسة المغربية للسينما، والجزائر لديهم وكالة اشعاء السينمائي،أيضاً هذا الصندوق موجود في أغلب الدول الأوربية مثل صندوق دعم السينما في بريطانيا (pfl) وامريكا.

وأيضاً صندوق التنمية الفرنسي الذي يسمى (CNC)، الذي غير تغييرات جذرية في الثقافة الأوروبية وخصوصاً في فرنسا، قام بتحويل مشروع الثقافة إلى مشروع استثماري، وهذا الذي أدى إلى تنمية هذا القطاع واستدامتة، لذلك نرى أوروبا لا تتوقف عن الإنتاج إطلاقاً، ولذا أرى أن من أهم شروط الصندوق، أن يكون مستقلاً عن وزارة الثقافة واي مؤسسة أخرى، وان يقوم بتفعيل السينما جماهيرياً اولاً، ويشارك في المهرجانات العالمية ثانياً، لكن أحدا لم يستجب رغم مرور كل هذه السنين، وقبل فترة قصيرة كتبت مجموعة كبيرة من السينمائيين ورقة، يعبرون فيها عن شكل وطبيعة الأفكار التي تعكس مصالح الطبقة الحاكمة، التي تتناقض مع طموحات وأهداف الطبقة المحكومة، والتقوا بعدها بالنائب الأول لرئيس مجلس النواب، محسن المندلاوي لتفعيل قضية صندوق دعم السينما الأزلي ومثل ما مرت على السلطات السابقة، مرت هذه أيضاً بحجة "الميزانية"، قالوها وهم يجلسون على كراسيهم المريحة، ولا يفكرون ولكن يرفعون الشعارات، ويكرسون التصورات والسلوكات السائدة، الا ما رحم ربي.

 

من الضروري تفعيل الصندوق وهو أمر مهم لدى العراقيين اجمع، وارجو ان لا يأخذ لون الظل، ويرمى في أعناق الإستبداد،وتقديم المنح من الدولة من غير تفعيل الصندوق، هو محاولة تخدير مؤقت غير شافي، ولا يتناسب إطلاقاً مع دولة مثل العراق.

 

لعل من القصص التي عشتها مع بعض المخرجين، واحدة تبين ما وصلت اليه حالة الانتاج السينمائي، فاحد المخرجين الذين فازفيلمه بجائزة دولية، اضطر مع احد العاملين في الفيلم الى رهن بيته، ووصل به الامر، ان لا يجد نقود تمكنه من العيش اليومي ،لأنه انفق كل ما يملك لتكملة الفيلم، وهذا لا ينفصل البتة، عن الواجبات العسيرة إتجاه فيلمه، لكنه أثناء سماع اسمهِ لتقديم الجائزة الدولية لفيلمه،والعلم العراقي مُحلقاً على المبنى، والنشيد الوطني العراقي، صاعداً بوضوح، ليتجرع هذا المخرج كل المشقة مخلوطة بالمسرات، وهو يسير على البساط الأحمر، معلناً صوت العراق، بين الدول الاخرى.. هولاء الأشخاص عرفوا معنى الهزيمة والكفاح والنجاح، والعذاب والخسارة، محاولين إيجاد طريقهم الخاص، للخروج من الأعماق السحيقة.. هذا هو التأريخ السينمائي العراقي، الذي يعبر عن الفجيعة والخطأ السلطوي.