رأي
في مطلع القرن السابع عشر، حيث كانت أوروبا تنعم بتغيرات عصر التنوير من مناخ فكري وثقافي. كتب الروائي الاسباني الشهير ميخائيل دي سرفانتس رواية تدعى الدون كيشوت او الدون كيخوت والتي تدور أحداثها حول رجل طويل القامة وهزيل البنية ناهز الخمسين عاماً، يُدعى ألونسو كيخانو الذي سيطلق على نفسه لاحقاً اسم “دون كيشوت” والذي يعيش في واحدة من قرى إسبانيا إبان القرن السادس عشر أي في بدايات عصر النهضة. والذي يصل به الهوس الى التفكير في استعادة الأمجاد الغابرة للفرسان.
فيغدو هذا الهوس الشديد رفيق تفكيره، فيصل به الحال إلى خلطه الواقع بالوهم، وسرعان ما تتملكهُ هذه الأفكار فيشرع في تنفيذها، فيرتدي درعه ويصقل سيفه المهترئ ويتجه لرحلته نحو المجد والعلا، حيث ظن هذا العجوز الأحمق أنهُ في مهمة مقدسة لابد منها. كانت رحلتهُ مليئة بالحوادث التي صادفها في طريقة. إذ يسرد لنا الراوي عشرات القصص التي واجهت الدون كيشوت، لكن تبقى أكثرها طرافة وأشهرها هي صراعه مع طواحين الهواء التي توهم أنها “شياطين لها أذرع هائلة تقوم بنشر الشر في العالم”، قام دون كيشوت بمهاجمة طواحين الهواء فغرس فيها رمحه لكنه علق بها فرفعته إلى الهواء عالياً ثم طوّحت به أرضاً فرضّت عظامه، وعلى هذه الحال ما كان دون كيشوت يفلت من خطر إلا ويقع في آخر.
تشير الرواية الى جملة من الإسقاطات، حيث أن إشارة الكاتب إلى سلاح الدون كيشوت القديم والمهترئ له دلالة فكرية كبيرة تدل على أن هذا الشخص يحمل أفكاراً عتيقة ومهترئة وغير صالحة للقتال أصلاً وليست صالحة حتى للنقاش.
لقد أراد سرفانتس في هذا الرواية السخرية من الاوهام والشعارات الزائفة التي تتملك الشخص فيغدو أسيرها دون دراية ولا تمعن. وما أكثر أشباه الدون كيشوت في مجتمعاتنا في الوقت الحاضر وكم نشاهد مدعين للمعرفة والمتحذلقين والواعظين، الباحثين عن مجد كمجد الدون كيشوت، بمعدات بدائية وأفكار رجعية، فترى الفرد المتحذلق ينشرُ المواعظ ويعطي النصائح ويريد تغيير العالم وهو خاوي الفكر شحيح الثقافة والمعرفة، فيوهم الناس بأفكار غير صحيحة ومضللة.
وكم من دولة او حاكم يشحذ همم المواطنين ويوهمهم بأنهم سائرون نحو النصر الحتمي بأسلحة ومعدات بدائية، كما حصل في العراق من حروب عبثية، اودت بحياة الملايين وكل هذا للبحث عن مجد زائف، وكما يحصل الان في بعض الدول الاخرى التي ألفت الشعارات الزائفة واعتادت عليها.
إن رواية الدون كيشوت تحمل في طياتها طابعا هزليا ممزوجا بفلسفة يجب أن نتوقف عندها لندركها ونتعلم منها ما ينفعنا في مستهل حياتنا. وهو ما يميز هذا النوع من الادب.
قام عبد الرحمن بدوي بترجمة لطبعتها العربية، حيث قال عندها إن “روائع الأدب العالمي أربع هي الإلياذة لهوميروس، والكوميديا الإلهية لدانتي، ودون كيشوت لسرفانتس، وفاوست لغوته”. الشيء الذي يوحي بأن الرواية أخذت مكانتها في التراث الإنساني فأصبحت مضربا للأمثال والحكايات حول حماقة الشخص وزيف أمجاده الذي يصبو لها.
ختاماً لو أمعنا التفكير في شخصية الدون كيشوت سنجد أنها شخصية دكتاتور متعنّت برأيه قديم ومتهالك في أفكاره ومعداته، يبحث عن مجد زائف وأفكار لا تصلح لوقته الذي يعيش فيه. ولو أسقطنا تلك الصفات على واقعنا الحالي سنجد أنه يعبر عن التطرف الذي يشهدهُ العالم، التطرف بجميع مفاصله وأسبابه، والجهل الذي يتوغل بين الناس وينتقل بين الاجيال.
كاتب وقاص عراقي