أعمدة رئيسية

إقليم وأقاليم

إقليم وأقاليم

سلوى زكو

لفرط ما عانت المحافظات من استبداد المركز وتحكمه في اصغر شؤونها، ولفرط ما عانى أبناؤها من تسيد قوى تتصارع على المغانم والمكاسب ولا تحسن ادارة الأموال المخصصة، ولأسباب أخرى عديدة، ترتفع الأصوات مطالبة بحقها في تحويل محافظات معينة الى أقاليم تدير شؤونها بعيدا عن تحكم المركز.   الحق هنا دستوري، والطموح الى تطبيق الدستور مشروع، وتجربة اقليم كردستان الناجحة ماثلة للعيان. ما الذي يمنع البصرة من ان تصبح مثل اربيل، والرمادي مثل السليمانية، والناصرية مثل دهوك؟ لكن تجربة إقليم كردستان، التي يمكن بالتأكيد الاستفادة من دروسها، يستحيل استنساخها في اي مكان آخر من العراق لأنها حصيلة تراث سياسي وحراك مجتمعي وتداخل اقليمي ودولي عمره يمتد الى عقود عديدة من السنين.   ظلت علاقة الكرد بالدولة العراقية تتأرجح بين مد وجزر منذ أيام البارزاني الكبير، وكثيرا ما أفضت سنوات الجزر الى صراع مسلح بين الطرفين تصاعد أحيانا، كما في الأنفال، الى مجازر دموية أودت بحياة مئات الآلاف وأزالت أكثر من 400 قرية من على وجه الأرض بسكانها ومزارعها وبيوتها.   وبعد الهزيمة الشنيعة لمغامرة غزو الكويت، نأى الكرد بأنفسهم عن الدولة العراقية، مستندين في ذلك الى دعم دولي مما منحهم حرية حكم أنفسهم بعيدا عن سلطة الدكتاتور. وبدأ الكرد يراكمون خبرة الحكم ويتعلمون من أخطائهم فيما ظلت بقية أجزاء العراق ملتصقة بجسم الدولة يعاني أبناؤها ويلات جوع الحصار وعواقب العيش في ظل جمهورية الخوف التي جرفت العقل العراقي وأطاحت بأي صوت معارض.   ولتجربة إقليم كردستان ميزة أساسية بدأت قبل سقوط الدكتاتورية، ولم يحاول الاستفادة من دروسها أولئك الساسة الذين تسلموا العراق بعد 2003. فلقد قاد الساسة الكرد عملية مصالحة جريئة أسدلت الستار نهائيا على جراحات الماضي وأحلت السلم الأهلي الذي تستحيل بدونه أية عملية تنمية. وشملت هذه المصالحة حتى أولئك الذين اصطفوا مع صدام حسين وحملوا السلاح ليقاتلوا الشعب الكردي، تمت استعادتهم بدون شروط ليصبحوا جزءا من المشهد السياسي.   لكن ما يلفت النظر هنا أن الساسة الكرد، الذين قادوا بنجاح عملية المصالحة في كردستان، كانوا أنفسهم جزءا من قرار المركز بحل الجيش العراقي، ذلك القرار الذي أحدث شرخا في بنية المجتمع بعد أن دفع بمئات الآلاف من الضباط والجنود الى البطالة. كما كان الساسة الكرد أيضا جزءا من إقرار قانون اجتثاث البعث، ومن بعده المساءلة والعدالة، الذي شطر المجتمع إلى بعثيين سابقين ولابسين للزيتوني من جهة ومظلومين يطالبون بالثأر من جهة أخرى. وعلى الرغم من ان قانون اجتثاث البعث كان مركزيا، فإنه لم يطبق قط في اقليم كردستان.   كما كانت لتجربة إقليم كردستان ميزة أخرى لم تتوافر لبقية أنحاء العراق وهي تشريع قانون للاستثمار شجع دخول شركات أجنبية رصينة مجال الاستثمار في اعمار البنية التحتية التي خربتها سنوات الحروب والاحتراب. وكفل قانون الاستثمار هذا ضمانات لرؤوس أموال كردية أسهمت في البناء بدل أن تهرب الى عواصم دول الجوار وغير الجوار. هناك في الإقليم بطبيعة الحال فاسدون وحيتان من رجال الأعمال لكن هذا القانون وضعهم تحت السيطرة، بمعنى أن عليهم أن يقدموا عملا حقيقيا لقاء الأرباح الهائلة التي يجنونها. ولا أحسب أن المجال مفتوح هناك لدخول شركات وهمية تنهب المال ثم تختفي، كما يحدث في بقية أنحاء العراق. هذا بالضبط هو السر الذي يقف وراء مدن تزدهر بالعمران الذي يثير إعجاب العراقيين.   تمنيت لو استطعت أن أقف الى صف المطالبين بالأقاليم، لكن ها نحن نشهد ركوب موجة السخط الجماهيري هذه من قبل ساسة ورجال أعمال وزعماء عشائر وكتل وتجمعات تحمل تسميات مختلفة كلها كانت سببا في الخراب الماثل وهي تتهيأ اليوم لاقتناص الفريسة. كم مرة يمكن للمرء أن يلدغ؟  

مقالات أخرى للكاتب