رأي
القى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 21 فبراير 2022 خطاب وضح فيه العديد من المظالم لتبرير العملية العسكرية الخاصة منها الخلاف الذي طال امده وهو توسيع الناتو وركز الخطاب على قضية أكثر جوهرية وهي شرعية الهوية الأوكرانية موكداً على الوحدة عميقة الجذور بين السلاف الشرقيين وهم الروس والاوكرانيين والبيلاروسيين الذين تعود اصولهم الى الكومنولث الكييفاني الروسي ويقترح إن تكون الدول الحديثة مثل روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا مشتركة في المصير السياسي، بدأت في 24 فبراير 2022، والتي كانت قد بدأت بودرها منذ ازمة القرن عام 2014، سبق ذلك تدخلات الغرب بتأجيج الاحتجاجات الرافضة لحكومة فيكتور يانكوفيتش الموالي لروسيا.
أوكرانيا دولة مهمة من دول شرق أوروبا وثاني أكبر الدول الأوروبية من حيث المساحة فلها موقع حساس وفاصل بين أوروبا وروسيا وتعتبر الحافة الاكثر أهمية بالنسبة لجيوستراتيجية بين الغرب والشرق وتحمل اكثر من نصف مساحة البوابة الشرقية المؤدية الى أوروبا وتعتبر ايضاً الممر الرئيسي لتهديدات الأوروبية لروسيا سابقاً وحالياً وحتى مستقبلاً وهي فروض الجغرافية التي لا يمكن تركها في التفكير الاستراتيجي، فبالعودة الى التاريخ وتحديداً لعالم الجغرافيا والسياسة البريطاني هالفورد جون ماكندر ونظريته الشهيرة (قلب العالم)، هذه النظرية التي تحدثت عن أهمية أوروبا الشرقية اذ ان ماكندر عدل النظرية ثلاث مرات لخص في التعديل الأخير بإن من يحكم أوروبا الشرقية يحكم منطقة قلب الأرض، ومن يحكم منطقة قلب الأرض يسيطر على الجزيرة العالمية، ومن يسيطر على الجزيرة العالمية يحكم العالم بأسره، هذه النظرية تكلم عنها ايضاً المستشار الأسبق للأمن القومي الأمريكي زبيغنيو بريجنسكي في مؤلفه رقعة الشطرنج الكبرى والذي أكد من خلاله بأن واشنطن ستبقى سيطرتها على العالم مفتوحة مالم تفرض سيطرتها على منطقة اوراسيا، لذلك فإن هذه المنطقة هي رقعة الشطرنج التي يتواصل فوقها الصراع من اجل الهيمنة.
ويرى بريجنسكي في أوكرانيا بأنها دولة محورية بحسب الإدراك الروسي وفي حالة خسارتها سيكون ذلك انتكاسة خطيرة لجيوبوليتيكية الروسية الحديثة ويربط بريجنسكي ما بين زعامة الإمبراطورية الاوراسية لروسيا وعلاقتها بأوكرانيا وفي حالة فقدان موسكو الهيمنة عليها سيكون من الصعب استعادة نفوذها السوفيتي السابق، وإن أوكرانيا بعدد سكانها يمثلون حجر الزاوية في المشروع المستقبلي الروسي وإن أي محاولة لبناء الإمبراطورية الاوراسية من دون أوكرانيا في ظل تناقص معدل الانجاب في روسيا مقابل ارتفاعه في دول اسيا الوسطى يجعل حتمية قيادة الإمبراطورية الاوراسية من قبل كيان جديد يمتلك هذه المقومات ويرى بريجنسكي إن الدولة القادرة على تشكيل تهديد للهيمنة الامريكية ومنافستها في منطقة اوراسيا هي روسيا لذا فإن توسيع حلف الناتو والمحاولة لضم أوكرانيا يعتبر هدفاً لتطويق روسيا.
اذن فأن أوكرانيا اليوم هي رقعة الشطرنج التي يتصارع عليها الجميع هذه المسألة تؤكد بأن الازمة الأوكرانية هي إرادة خارجية وذلك بسبب التنافس الشديد بين المحورين الشرقي والغربي حيث قام الغرب بضم معظم الدول الشرقية في عضوية الناتو ولم يتبقى سوى دولتين وهما أوكرانيا وبلاروسيا لكي يستكمل الغرب ضمهم ليحرم روسيا من النفوذ داخلهما اما روسيا فكانت تروم الى تكريس نفوذها على البحر الأسود وشبه جزيرة القرم التي سيطرت عليها بالفعل لمنع وصول الغرب من السيطرة على البحر الأسود لذلك فإن روسيا تعتبر أوكرانيا بإنها مصلحة روسية ولا يمكن تركها للغرب، الذين دعموا أوكرانيا في محاولة منهم لضمها لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي لم يجد بوتين امامه سوى الدخول العسكري لتحقيق أهدافه في منع الغرب من ضمها.
مر عام ونصف على انطلاق الحرب ولم تستطع روسيا النجاح في عمليتها العسكرية ولم يكن بوتين متوقعاً بأن أوكرانيا التي كان يتصورها حديقة الكرملين الخلفية ستعصي على جيشه الحاصل على المرتبة الثانية كأقوى جيشاً في العالم حتى وصل الحال أن يطرق الرئيس بوتين باب الأيديولوجية والتي لم يظهرها طيلة العقدين التي حكم فيها في محاوله منه لاستقطاب قدر أكبر من المؤيدين، للتغطية على الإخفاق التعثر الذي حصل في الحرب فلم يبقى امام بوتين سوى باب الأيديولوجية والاختلاف الثقافي والقيمي مع الغرب في محاولة للتغطية على تعثر القوات الروسية في مغامرتها الأوكرانية، وما تعانيه من عقوبات وضغوط على الصعيد الدولي، فيسعى الروس اليوم الى تكريس خطوطاً فكرية وقيمية والعودة لمربع التنافس الجذب الأيديولوجي الذي خيم على الساحة الدولية ابان الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي.
أذن فالصراع الدائر في أوروبا الشرقية هو صراعاً فكرياً لفرض الهيمنة على المنطقة الأكثر أهمية في أوروبا، فروسيا اليوم تدرك تماماً بأن عليها كسب تعاطف الشعب الروسي واستجداء عطفه لمساندة العملية العسكرية فالمفكر الروسي ألكسندر دوغين المقرب من الرئيس بوتين والمؤيد الكبير للعملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا ظهر ليصرح بإن هذه العملية هي حرب الكنيسة الأرثوذكسية ضد حضارة المسيح الدجال، وأن الملحدين لا يستطيعون أن يفهموا هذه الحرب لأنها حرباً دينية وبالتالي فأنهم لن يستطيعوا ان يكسبوها، كما وصف دوغين قتالهم موجه ضد جحافل يأجوج ومأجوج المتحولين جنسياً ولوح كثيراً بالنصر الروسي في نهاية المطاف وستسود القيم التقليدية على أراضي أوكرانيا دوغين الذي خسر ابنته في العام الماضي نتيجة تأييده التام للحرب على أوكرانيا فهو اول من دعا نحو استحداث إقامة دولة روسية عظمى عن طريق التكامل مع الجمهوريات السوفيتية السابقة، وبالدرجة الأولى الأقاليم التي ينطق أهاليها اللغة الروسية مثل القرم ودونيتسك ولوهانسك فيرى دوغين إن أوكرانيا ذات السيادة ستشكل مشكلة كبيرة لروسيا وإن ميولها نحو المحور الغربي يعتبر اعلان حرب جيوبوليتيكية على روسيا لإنها ستقوم بتنفيذ استراتيجية الاورواطلسية الأوروبية فستلعب دور النطاق الصحي الأطلسي لمحاصرة روسيا جيوبوليتيكياً ومنعها من تحقيق مشروعها الاوراسي واقترح دوغين على صناع القرار الروسي محورين لتفادي تلك المحاصرة يكمن المحور الأول بإعادة ادماج أوكرانيا ضمن الجغرافية الروسية اما الثاني فيتمثل بعدم السماح بأستمرار أوكرانيا كدولة موحدة ويجب تقسيمها الى وحدات عديدة تتفق مع الوقائع الجيوبوليتيكية والثقافية.
قام بوتين اليوم بأدلجة الصراع وتكريس الخطوط القيمية والأخلاقية والأيديولوجية المختلفة لليبرالية الغربية وذلك لغرض استقطاب المؤيدين له والمعاديين للغرب ليس الروس فقط بل شعوباً تملك الرؤية والمبدأ المعادي للغرب لكن الرئيس الروسي محق ايضاً في أدلجة الصراع فهو لم يحارب أوكرانيا وحدها بل دول حلف شمال الأطلسي كلها وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية الداعمة الأكبر لأوكرانيا فهي تواصل تزويد أوكرانيا بأسلحة متطورة أحدثها ذخائر عنقودية فهي تسعى الى استمرار الحرب ولا تظهر نوايا الاتفاق على وقف اطلاق النار فالسياسة الامريكية ترى اليوم بأن كييف تقاتل نيابة عنهم وأن الحرب هناك هي حرب استنزاف كبير للقوات الروسية، لأجبار القيصر الروسي على الجلوس في طاولة المفاوضات.
لكن هذا الامر لن يتم مطلقاً فبوتين ليس بهذه السذاجة لأنه لن يوافق على وقف القتال ألا بتحقيق بعض اهداف العملية العسكرية الخاصة، لعل أبرز هذه الأهداف هو تقديم واشنطن التعهد الخطي بعدم ضم أوكرانيا للناتو.
أكاديمي وباحث سياسي