ثقافة

أطبّاءٌ مبدعون: نظرة في منجزاتِهم الإبداعية
إنّ تلك العلاقة بين الأطبّاء والإبداع هي بالأساس علاقةٌ يطغى عليها الجانبُ الشخصي أكثرَ مما تطغى عليها تلك العلاقة الترابطية التآصرية المباشرة، إذ لا يوجدُ عمليّاً ارتباط بين الطبّ ذاته والإبداع ذاته فالبون نظريا بينهما شاسع، فالمرءُ ينجذبُ نحو الأدب والفن -مثلاً -لما لهما من آثار نفسيةٍ إيجابيةٍ عميقة، وغالباً ما يكون ذلك الإنجذاب مبكّراً بمعنى أنّ المرء يتّجه للإبداع قبل أنْ يكون طبيباً.
فالطِبّ في نهاية المطاف مهنةٌ عملية تجريبية أمّا الإبداع فهو ميلٌ شخصي يغلب عليه المزاج، لكنْ وبما أنّ الإبداع هو مرآة المرءِ للوصولِ إلى شغافِ كيانه، وإنّ جوهر معناه في البحث المستمر والدؤوب والنظر الفاحصِ، والتبصّر والتدقيق في حيثيات وبواطن الأمور، فقد كانَ مضماره جَذّاباً لكلّ البشر بمختلف أعمالهم ومهنهم ولم يخرج الأطباء عن هذا النسق بل وحتى العلماء والفلاسفة الذينَ قضوا أعمارهم في الاشتغال بسكّ المصطلحات وجدران المختبر، قد خلَب لبّهم مقصد الإبداع وغاياته النبيلة ليسَ في تربية الإنسان وأخلاقهُ ورِفعة ذوقه وحسب ولكنْ في جعلهُ يعيشُ حياةً مُثلى.. واعياً بما حوله ،مترجماً تفاصيل يومه بحكمةٍ ودراية دون نسيان فكرة الموت الأبدية وكأن كُل ألسنتهم تقول:
لِلمَوتِ فينا سِهامٌ غَيرُ خاطِئَةٍ مَن فاتَهُ اليَومَ سَهمٌ لَم يَفُتهُ غَدا
ولعلّ أشهر الأطبّاء المعاصرين الذين وجّهوا جهودهم للكتابةِ والبحث التاريخي المعمّق الدكتور المصري محمد الجوادي، الذي كانَ يعملُ أصلاً أستاذاً في كلية طب الزقازيق وهو متخصصٌ في أمراضِ القلب.
مماْ نلاحظُه في حياة الجوادي أنّه أجادَ التوفيقَ بينَ الطبّ والكتابة، إذ بقي يمارس مهنةَ تدريس الطب حتى أُقيلَ منها،و ظل يكتب حتى وفاته.و قد أُشتهرَ الجوادي في مصر على أنَّه محلل سياسي لمعَ في ثورة يناير وما بعدها فكان يحرص في تحليلاته على تأصيلِ الحدث تاريخياً وتحليله ونقده منطقياً.
بلغت مؤلفات الجوادي 140 مؤلفاً في مختلف الميادين الفكرية والأدبية والثقافية والسياسية والعسكرية بل والدينية أيضاً.و قد حصل على تكريمات متنوعة وجوائز جمةٍ نظراً لتفوقه وإنجازاته، فهو إضافة لاهتمامه بالكتابة كانَ مترجماً ومشرفاً على العديد من المجلات العلمية الطبية بل وساهم في تأسيسِ قسم الاعلام التربوي في جامعة الزقازيق كما كانَ مقرراً في لجانٍ متعددةٍ ومستشاراً في أخرى. وعضو مجلس إدارة في مؤسسات وشركاتٍ مختلفة.و الجوادي بعد ما أنجزه وحققه توفّي في قطر وهو لم يتجاوز الخامسةَ والستين من عمره ضارباً لنا مثلاً في إمكانية أنْ يكون الطبيب إضافةً لعمله مهتماً بالكتابة والتأريخ والفن دونَ وجود ذلك التضاد الوظيفي المُقلق.
المثالُ الثاني الهام، هو وسيم السيسي وهو أستاذ المجاري البولية وأمراض الذكورة وهو أيضاً مخترعٌ لجهاز خاص بالمسالك البولية وصاحبُ عضوياتٍ كثيرة خصوصاً في مجاله.و هو إضافةً لذلك أحّد أشهر المهتمين في موضوع إحياء الإهتمام بالحضارة المصرية القديمة للعامة وكَشْفِ ما يلفها من غموضٍ وإلتباس داعياً ومبشّراً بأهمية التعرف على خفاياها وإبداعاتها في مجالات الحياة كافة. ولأن هذا الهدف كانَ يشغل السيسي أخذ على عاتقه تعريف المصري بحضارته عبر التلفاز والصحافة والكتب.
وما يجذب في كتبِ السيسي تلك العبارةُ الموجزةُ والكلمة الرشيقة والإسلوب المكثّف والبسيط الموجَّه لإغناء القارئ بمعلومات جديدةٍ جَلية غير معقدةٍ متبعاً بإيجازه ما قاله إبن خلدون إن "الإيجاز خاصيّة أصيلة في اللسان العربي وهو لُبُّ البلاغة". وهو في كل ذلك ينقلُ لنا منجزات الحضارة المصرية بطريقةٍ درامية متسلسلة واضحةٍ لا يشوبها المصطلح أو يشتبك فيها الجدل. و بذا فهو يأخذنا برحلاتٍ من فن التحنيط والتوليد الفرعوني وأمراض المومياوات ونظرية بناء الأهرام إلى الدفاع عن الهوية ورؤياه حول التأثيرات الأجنبية ومحاولات تهويد مصر وأدلجتها بواسطة الماكينة السياسية.
السيسي ينقلنا من الثقافة إلى السياسة ومن التاريخِ إلى الدين نفسه ومن الآلهة رع وحورس وآتون إلى أطباء الفراعنة: أيّوتي وعكمو وشنو وساو وتيتو. وبذلك كان موضوع السيسي الرئيسي في كتبه المتعددة تاريخَ مصر الفرعوني! وله من الكتب " مصر التي لا تعرفونها" و"هذه هي مصر" و"مصر علّمت العالم" و"احنا مين" و"المسكوت عنه في التاريخ" وآخر كتبه المنشورة كتاب "أنا أتحدث إليكم.
هذا الأسلوب البسيط في طرح السيسي،و النافع لكل قارئٍ شغوف يشبهُ الإسلوب الذي دأب عليه مبسّطي العلم في الغرب، مثل ستيفن هوكنغ ومؤلفاته في الفيزياء الكونية والموجهة بطريقةٍ خلّابةٍ لغير المتخصصين،أو نيل ديغراس تايسون أو بيرتراند راسل وغيرهم ممنْ بسّطوا اختصاصاتهم وعالجوا بذلك التبسيط مسائل هامة مُتّبعين تلك المقولة الحكيمة لأنشتاين التي تقول بأنك إذا لم تستطع شرح فكرتك لطفلٍ عمره 6 أعوام فأنت نفسك لم تفهمها بعد.
أمّا مثالنا الثالث هو البحّاثة والطبيب العراقي حسين سرمك الذي أثرى بدراساته النقديّة المكتبة العربية والعراقية على حدّ سواء.و سرمك حاصل على الماجستير في الطب النفسي والعصبي والذي أفاده لاحقاً في تفسير الظواهر الأدبية من وجهة نظر سايكولوجية، فكتبَ في التحليل النفسي لملحمة گلگامش والأمثال الشعبية وأسطورة الإله القتيل. وهذه الأعمال هي محاولة الكاتب للوصول إلى أعماق مشاعر الأدباء في كتاباتهم.
ولسرمك مؤلفات نقدية عن شعراء العراق المتميزين فذا هو يكتب عن أدب المراسلات مُتّخذا السياب وغسان كنفاني إنموذجاً ودرسَ مظفّر النواب الذي كتب عنه كتابه الثورة النوابية، ويحيى السماوي الذي أفرد كتاباً في منجزه الشعري وأغراضه عنونه بإشكاليات الحداثة في شعر الرفض والرثاء يحيى السماوي إنموذجاً، وكتابه الآخر يحيى السماوي وفنّ البساطة المُربكة وقد كانَ سرمك معجباً بشعر السماوي إذ قال في أحد مقالاته أنه "كلما قرأتَه-اي السماوي- أكثر اكتشفتَ معانٍ ودلالات وخصائص فنّية تجديدية".
ولم يغبْ عن سرمك الأدب الروائي والقصصي والمسرحي فكتب كتاباً عن القاص البصري محمد خضير عنونه "مملكة الحياة السوداء" كما كتب عن أدب فؤاد التكرلي وميسلون هادي ووراد بدر سالم وعبدالخالق الركابي وجليل القيسي.و غيرهم من الادباء العراقيين.
ولسرمك مؤلفاتٍ فكرية ذات طابع نقدي ومنها كتاب الإزدواجية المُسقطة :محاولة في تحليل شخصية الدكتور علي الوردي وكتاب علي الوردي عدوّ السلاطين ووعّاظهم وهذان الكتابان يوضّحان الأثر الفكري والأدبي الذي تركه عالم الاجتماع وصاحب الإسلوب التيليغرافي المباشر علي الوردي ليسَ عند علماء الاجتماع الذين كتبوا عنه لاحقاً ولكن عند الأدباء والمختصين في علم النفس.
وبعد أصابته بكورونا ومضاعفاتها توفّي الأديبُ والمؤرخُ والناقد والطبيب حسين سرمك في 2020 ولم يتجاوز عمره الرابعَة والستين عاما تاركاً ورائه واحد وأربعين كتاباً تشكّل غنىً معرفي لا يقدّر بثمن.