رأي

شِعرية الطعام

شِعرية الطعام

جاسم بديوي

يُقدم الشعر في محافلنا على أنه سيد الكلام وصفيه وأكثره شرفا ونقاء، على حد تعبير مثقفي القرون الوسطى العرب، ذلك أن الشعر يستوعب كل ما يحتاجه الذهن والوجدان من فيتامينات، ولا تكاد معركة كلامية تخلو من ذكر الشعر مكملا ومقوما ومقويا، كما لا يخلو كتاب او رسالة، ربما لحد الآن، من أبيات شعرية، فلا التوحيدي ولا الجاحظ ولا الشافعي ولا السيوطي يستطيع أن يتخلى عن الشعر في طروحاته، وكأن الشعر أصبح هيكل المعرفة وعصب الثقافة ودماغ البيان وقلب الحكمة، حتى وصل الأمر ربما الى مقارنة العجز عن الاتيان بأبيات مناسبة في محل الشاهد بالعجز بالنطق والجهل، ما أدى الى تسيد الشعرية على عقلنا العلمي والمعرفي بشكل عام. وهناك توضيحات على شكل أشعار لنظريات فلسفية ومعرفية عرفت فيما بعد باسم الشعر التعليمي.   عُدّ الشعر إذن غذاء روحيا متصدرا لائحة المعارف الروحية. ولأن الانسان روح وجسد وان ثقافتنا تنظر الى الجسد نظرة احتقار كونه مكمن الشهوة والمعصية والشر، كما عدت انسانية الانسان مرتبطة بالحاجة الروحية دون الحاجات الجسدية قال أحدهم: أقبل على النفس واستكمل فضائلها * فأنت بالروح لا بالجسم انسان   لقد أدار نظامنا المعرفي ظهره للجانب الأساس في انسانية الانسان، وبهذا أقفل الباب في وجه ازدهار الجسد الذي يمثل ازدهارا للروح ونافذة لها. والأسوأ من ذلك تجاهل العلاقة الاساسية بين الجسد والروح باعتبارهما مكملين متضايفين لا قيمة لأحدهما من دون الآخر. ولم يلتفت احد الى يومنا هذا الى ما قدمه العلم من براهين ودلائل ملموسة لتأثير حبة اسبرين في صفاء ذهن أحدهم وتأثير العقاقير الطبية في توجيه الادراك النفسي.   لقد شيد دعاة الروح قصورا من الرمال على اسس ارتجالية مأخوذة من تلقينات شفاهية لم تستند على التجريب ولا على الملاحظة العلمية انما على اساس التوارث في الافكار، لذا بقي الجسد في زاوية الاستبعاد ردحا طويلا من الزمن أمام تقدم وسائل وهمية لم تدع استكمال الروح فحسب بل أنتجت أمراضا نفسية وعاهات أخلاقية أدت الى تكبيل المجتمعات بخيوط عنكبوتية واهنة. وقد لا تكمن المفارقة هنا، إنما صميم المفارقة ان ادعاء استكمالات الروح تجاهلت أهم قاعدة روحية أساسية وهي الطعام. والأدهى من ذلك أن أتباع الكمال الروحي لم تهزهم رقتهم الروحية بإزهاق أرواح الآخرين وأكلها من دون تأنيب ضمير، فعن أي كمال يتحدثون؟   لقد صُدعت رؤوسنا لقرون طويلة وعريضة بأبيات الأولياء والصالحين، ولم يلتفت أحد الى أن ينقذ طعامنا من الانزلاق الى مجازر دموية سامة موبوءة، فعن أي كمال يتحدثون؟   نقول طعامنا لأنه علاقتنا الأولى بحاسة التذوق، تذوق العالم، حاسة الذوق البشرية التي تعد معيارا اساسيا في فهم ما يحيط بنا، كما أنها خطنا الأول في مواجهة ما يدخل أجسامنا، فكما ان دعاة الروح يحدوهم الحرص الكبير على ما يدخل أذهانهم وعقولهم من الأفكار، كان لا بد من أصحاب أولوية الجسد، بوصفه ممثل الروح ومظهرها الأساسي، أن ينظروا بعين الاعتبار الى ضرورة دخول الغذاء الحقيقي والنقي الى مجرى الجسد.   وبما أن الشعر يعد منتهى البلاغة والوجه الأكمل للمعرفة، فإن الطعام النقي الخالي من الدماء والتعذيب هو منتهى البلاغة الغذائية، وكما أن الشعراء يقدمون مائدة فاخرة للذهن تدعو الى الجمال والبهجة والرضا، فإن الأمر عينه يحدث مع الغذاء، وكما تحب ان تكون شاعرا وشاعريا مع القصيدة، لا تسمح لطبقك المفضل ان يتضمن صرخة او عذابا او ألما كونيا لأحد من مخلوقات الله، فقد خُلقت من أجل الحياة لا من أجل ان تكون وجبة لأحد.  

مقالات أخرى للكاتب