رأي

نفق الآلهة

نفق الآلهة

معتز رشدي

في السنوات الأخيرة، التي سبقت خروجهم النهائي من التاريخ، ازداد الهنود الحمر - في صراعهم المميت ضد قواه العمياء - تعلقاً بآلهتهم، وتوسلاً إليها، علّها تمدهم بجند من عندها! غير مدركين أن آلهتهم - وكُلُّ آلهةٍ أخرى - لعلى أتم الاستعداد للتخلي عن رعاياها في الأوقات التي يزداد تضرعهم إليها، واتكالهم عليها. (آهٍ.. كان قارعو طبولهم القوية يتجمعون في ساحات المعابد، ليوقظوها بقرع كدوي رعد متواصل!!) تُرى! ما الذي تبقى، اليومَ، من الهنود الحمر، ومن آلهتهم؟ لا شيء.. لا شيء؛ هم أُبيدوا حضارياً، وهي - آلهتهم - رحلت في توابيت ذهبية إلى قاعات المتاحف. الشيء ذاته يحدث، اليومَ، لنا، في صراعنا المميت ضد قوى تاريخ لا تقل شراسة وطموحاً.. قوىً شديدة الذكاء، تعرف ما تريد، وكيف تخطط لما تريد، مستعينة على ذلك بنا، نحن، أنفسنا، عبر تركيزها الشديد في نقاط ضعفنا، والمتمثلة في اتكالنا على قوى الغيب وحده، بلا معين من علم ومعرفةٍ دنيويين؛ فكأننا - في مواجهتها - شبه آدمي جائع، عارٍ، تنيمه لطمة، ويوقظه جوعه أو عطشه، وهو، بينهما، عاجزٌ عن فعل شيء لاسترداد قواه التي تتسرب منه شيئاً.. فشيئاً. ولأنه كذلك، فهو لا يملك من أمر نفسه شيئاً، ولا يملك سوى ألفاظ يتضرع بها، بلسانٍ ثقيلٍ، إلى قوىً ديدنها كره كُل عاجز من أتباعها؛ إذ لا مكان في عالم، قاسٍ، كعالمنا، لعاجزين، همهم التضرع، ولا شيء غير التضرع؛ أترانا دخلنا، في طور حضاري مآلنا، في نهايته، الانقراض، بلا رحمة، ولا شفقة؟ ربما سيشفق علينا مؤرخو مستقبل - ما، قائلين: ها هنا كان يسكن قومٌ لم تنفعهم طقوسهم وتضرعاتهم، ولم تشفق عليهم قوى غيب - هم، بعدما أضاعوا الطريق إلى أنفسهم، في ما لا طائل، لهم فيه من آفات عرقية ومذهبية، كلما خفّ أوارها، جاء متعصبٌ، جاهلٌ، منهم، ليشعل فيها النار ثانية، وثالثة، وعاشرة! وهم، في كل هذا، وذاك، لا يكفون يتضرعون، وينوحون، معلقين أسباب تخلفهم المخزي، على شماعة عدوهم، مؤكدين له المرة تلو المرة، ما أشاعه، هو الذكي الخبيث، نفسه، عنهم، والذي مؤداه: ها هنا، على هذه الأرض، قومٌ لا يستحقون الحياة.. لا يستحقونها. ليست الحياة هبةُ تُعطى للمرء مرة واحدةً، هكذا؛ مجاناً! بل، هي، أشبه ما تكون بقطعة أرض ذات تربة خصبة، يستحقها من يكدح فيها، ويحرس ما ينطوي عليه رحمُها من وعود خضر؛ يترقبها ترقب ملهوف؛ عرقه لها، وسهره، سهر القناديل، عليها. ما الذي فعلناه بما أُعطيناه من منن وهدايا؟ ما الذي فعلناه بفردوس بابل، وبابل على حد قول الراحل الكبير "محمود درويش": نخيل ونهران؟ ثم حلت علينا، فجأةً، نعمة سائل أسود، أزلنا بسوء تصرفنا به نعمتي النخيل والنهرين! أية قوى عمياء، شريرة، نذرتنا لتخريب كُلِّ ما أُعطيناه؟ هل نحن الجراد الذي يتعوذ من شره الناس؟ متى نثبت لأنفسنا، ولأعدائنا، أننا جديرون بنِعم الحياة؟  

مقالات أخرى للكاتب