رأي
على سُنة السياسة والشعور بالمظلومية وعقدة المركز والهامش وهيمنة الأول على الآخر؛ برزت ظاهرة مهرجانات المدن الشعرية في عراق ما بعد 2003. وبغض النظر عن شرعية الظاهرة من عدمها؛ لا نجد من عسير الفهم أنها نشأت بوصفها ردة فعل على الحقبة السابقة، ومحاولة لإثبات الذات على دين (لكم رموزكم ولنا رموزنا). ففضلا عن جدل بغداد والنجف، او هكذا كان في بداية الأمر، عن انتزاع تسمية مهرجان الجواهري الذي عقدت الدورة الأولى منه في تموز 2003؛ ظهرت مدن أخرى تحمل الاهتمام نفسه. فالحبوبي والمتنبي والكميت وأبو تمام، وحتى كلاويش، ولا ننسى الحُلة الجديدة لمهرجان المربد الذي عاد لمدينته الأولى البصرة.
هذه المهرجانات كلها تحمل الهم نفسه؛ احتفال المدن بحقها في الوجود، او لكي يقول أدباؤها نحن هنا. في ظل زحمة هذه المهرجانات سواء كانت تتلقى التمويل من سياسين أم حكومات محلية أم شخصيات ما هنا أو هنا، غاب عن خاطر المثقفين سؤال في غاية الأهمية هو جدوى المهرجان نفسه، وماذا يعني اقامة مهرجانات شعرية دورية كل سنة أمام إلحاح المشاركين، شعراء ومدعين ومصفقين، وإصرارهم على صعود المنصة التي أصبحت محل كسر خواطر وخيبة أمل معظم المهتمين بسلامة اللغة العربية وآدابها، هذا إذا ما غُض البصر عن حجم التخصيصات المالية التي تصرف لهذه المهرجانات التي لا تقدم شيئا جديدا للثقافة أو المجتمع، اللهم إلا فرص التقاط الصور، وتصدر السياسين الصفوف الأولى من الجلسات الافتتاحية.
لا يفهم من ذلك أني بالضد من اقامة المهرجانات، كيف ذلك وأنا من المواظبين على حضورها الذي يجعلني أحد الشهود الكثر على علامات آخر الثقافة من جوانب متعددة منها عدم وجود هدف لانعقاد المهرجان إلا عقد المهرجان نفسه أولا، والإصرار على دعوة كمية هائلة من الكائنات التي حُشرت في قيامة الشعر عنوة، بحق وبغير حق، ثانيا، أما ثالثا فهو تدني أخلاقيات الشعراء السكارى التي أصبحت عبئا يرزح تحته المدعوون والداعون على حد سواء، كما بات مصدر إحراج كبير للمثقفين إذ تشكلت مؤخرا صورة نمطية معينة للمثقف العراقي، الأمر الذي دعا أحد رجال الدين إلى التمادي في كيل الشتائم اللاذعة للمثقفين، في سابقة خطيرة في تاريخ الثقافة.
الأمور هذه، وغيرها، تدفعنا، نحن المراقبين أصحاب النوايا الحسنة الحالمين، الى الدعوة الى طرح عملية (تصحيح المسار) حتى وان كانت مجرد دعوة! عبر اتخاذ مواقف تنتج عنها خطوات عملية يقف في مقدمتها التساؤل عن جدوى اقامة المهرجانات، والشعرية منها على وجه الخصوص، طالما لا تأتي بحال شعري جديد، ولا بحداثة شعرية، ولا تغيير في بوصلة الشعرية العراقية، أو العربية. على عكس ذلك فان من الملاحظ اننا نسمع هذه الأيام بعودة الشاعر الى عادة التكسب القديمة، ما يثبت ذلك تصدر بعض الأثرياء القبليين الأميين للمشهد ازاء تقبل واضح لعطايا ودروع أولئك، ووعودهم بإقامة مهرجانات جديدة على نفقتهم الخاصة! وسط سعادة المتملقين والمدعين الحائمين حولهم، وهذه عودة صريحة بالشعر الى شيخ القبيلة بدلا من كونه طريقة فهم للحياة المعاصرة.
حسنا فعل اتحاد أدباء النجف عندما قرر منع الأشخاص غير مكتملي الأدوات الشعرية من الصعود الى المنصة، ربما قد ينجح ذلك في النجف نسبيا، إلا أنه من الواضح أن مثل هذا القرار لا ينجح في بغداد، كون الذي لا يصعد منصة الاتحاد قد يصعد منصات أخرى متوفرة بكثرة تنذر بخراب الشعر نفسه، هذا من جهة، أما من جهة أخرى، وهي أشد خطورة من الأولى، فان قيادات الثقافة أنفسهم منخرطون، أو لنقل متورطين، في ما يحدث، إما عبر (تساهلهم) في منح الفضائيين رتب الشعر، وربما (قيادته)، او لوقوعهم في فخ (الدمج) في المؤسسات غير الرصينة.
أذكر مرة اعتراضي على السماح لإحداهن ارتقاء افتتاح أحد المهرجانات تلك، لتلقي بطريقة سيئة أسهمت في انفضاض الشعراء من القاعة. وعندما جابهت المسؤولين كانت إجاباتهم هي إلقاء لوم البعض على البعض الآخر بعد خراب الجلسة!
ليس عيبا، وأنت تمثل شيئا ما في مؤسسة عريقة تحمل الابداع ميسما لها، أن تفاتح وتصارح غير مكتملي الأدوات الشعرية (الفضائيين) بضرورة تطوير ذواتهم الشعرية، بل العيب كله، في أن تخدعهم في مجاملة ليست ضرورية إلا من نواح انتخابية، فلا تنسى إن انتخبك المبدعون فهنيئا لك وأنت لها، وإن انتخبك الفضائيون فاذهب الى المريخ.