رأي
لكل دولة في العالم، كبيرة كانت او صغيرة، عظمى كانت او نامية، لها حدود بحرية او برية، معترف بها من قبل الأمم المتحدة، مصالح وطنية عليا يتم تحديدها بعناية كي تسعى قياداتها السياسية بكل ما تمتلك من مقومات، وأدوات، وثروات، وقدرات وطنية إلى تحقيقها بالشكل الأمثل. يكون تحديد المصالح الوطنية الخطوة الأولى لبناء الاستراتيجية الوطنية الشاملة لأي بلد في العالم، وبالاستفادة من عناصر قدرات الدولة المتمثلة في القدرات الدبلوماسية، والعسكرية، والموارد الاقتصادية والبشرية، وأضيفت لها في بعض الدول المتقدمة القدرات العلمية والتكنولوجية في وضع الاستراتجية الوطنية الملائمة التي تتفرع منها استراتيجيات متخصصة وخطط عمل منها معلن وبعضها غير معلن.
وتستخدم لتنفيذ هذه الخطط والاستراتيجيات كل أدوات الأمة التي تبنيها وتطورها لحمايتها ولتنفيذها بدقة وبالتالي تحقيق هذه المصالح. بعض هذه الادوات الذي تستخدمه الدول في تنفيذ واسناد خططها وحماية مصالحها هي أجهزة المخابرات والأمن الداخلي، وهو حق مشروع. الكثير من المؤمنين بنظرية المؤامرة من السياسيين والمثقفين والأكاديميين في منطقة الشرق الأوسط يصنف كل عمل يحدث ويستهدف دول المنطقة وشعوبها بأنه مؤامرة، فيحللون ويضعون الاستنتاجات ويطلقون العنان لخيالهم الخصب في وضع سيناريوهات تحدد صاحب المصلحة في استهداف البلد او هذه الشريحة او تلك بطريقة تبعد الشك عن المنفذ الحقيقي للجريمة. وأنا هنا لا أنفي وجود المؤامرة حيث كما ذكرت آنفا ان دول العالم وبالأخص الكبرى تضع خططا منها معلن ومنها غير معلن لتحقيق أهدافها الوطنية وحماية مصالحها.
لكن ما يثير التساؤل والاستغراب ان مكتشفي المؤامرات يكتشفونها بعد حدوثها او بعد فترة زمنية قصيرة من حدوث الحدث. فالأمم التي تحمي مصالحها تعمل بشكل دؤوب لتحصن نفسها ضد كل أنواع المؤامرات السياسية او الاقتصادية والأمنية. والأدهى من ذلك انهم يملؤون رؤوسنا بكل ما أوتوا من قوة اقناع لديهم بربط خيوط المؤامرة واكمال حقيقتها. وللأسف فان هذا الاكتشاف يعتبر في عالم الجريمة متأخرا جدا ولايفي بالغرض، وأنا هنا لا أريد الاساءة لأحد، ولكن الأمثال تضرب ولا تقاس. فتعريف المغفل او الساذج هو الشخص الذي يعرف كل شيء ولكن بعد حدوث كل شيء.
ما تعانيه دول المنطقة من أزمات كبيرة على كافة المستويات جعلنا نخلط في عملية ربط خيوط المؤامرة. فعلى سبيل المثال، أساس تنظيم داعش الإرهابي مرة يفسره احدهم على انه ايراني المنشأ والهوى، وأخر لديه أدلة قاطعة بانه ولد في حضن المخابرات الأمريكية، وثالث لا يقبل احد يناقشه بان كل عناصره تنتمي للموساد الاسرائيلي، وكلها تبعد الشك والريبة عن مجتمعنا وعن الأفراد والفكر المتطرف الذي نما وترعرع في احضان نهج وعقيدة الأفكار الدينية التكفيرية، ونسينا ان مدارسنا وجوامعنا تخرج وبشكل يومي أنواعا من المتطرفين الذين يحلمون بالجنة والقادرين على اعادة الحق للأمة المظلومة وبعملية غسيل للأدمغة فريدة من نوعها.
تفسيري لهذه الظاهرة يقتصر على اننا كمجتمع نحاول ان لا نلقي اللوم على انفسنا وجهلنا، فنبحث دائما عن سبب آخر. ولأننا عاجزون على المواجهة الذاتية والانتقاد؛ ننتقد بعضنا البعض، فتحول التطرف الديني الى تطرف طائفي عاطفي صاعق سيأتي على الأول والآخر. لابد ان نتوقف قليلا وننتقد أنفسنا ونضع أصابعنا على الأسباب التي ادت الى ذلك، بدلا من وضعها في آذاننا او على أعيننا، قبل ان يفوت الأوان ويحترق كل شيء. إنها مسؤولية القادة الدينيين قبل غيرهم، ومسؤولية القادة السياسيين ان يشجعوا المجتمع على الثقافة.
نحتاج الى ثورة فكرية على افكارنا البالية التي نحن فقط من يصدقها. كنا عبئا على العالم المتحضر نتيجة هذه الأفكار، والآن نحن عبء على أنفسنا. كم يقتل يوميا في منطقتنا، الملايين مهجرون، والمزارع والمصانع متوقفة، إلا مصانع الفتنة واكتشاف المؤامرات فهي تدور وتعمل بنشاط وتستوعب العاطلين عن العمل. لابد من حل لمشاكل المجتمع المتأصلة، مثل الجهل، والتباين الاقتصادي، والفساد المالي والأخلاقي، وفشل ادارة الموارد، وفشل النخب الحاكمة في تحقيق سيادة القانون.. هي مشاكل تجذرت في مجتمعاتنا منذ زمن طويل ولابد لنا كي نعيش كأي دولة في العالم بدون مؤامرات داخلية او خارجية أن نستأصلها من جذورها. لابد ان يكون لهذه الأمة آباء وقادة قادرون على ان يقدموا أنفسهم على أنهم بناة أمة قادرون على تحديد المصالح الوطنية العليا ويقدمون مصالح البلد على اي مصالح فردية او فئوية كي يستطيعوا حمايتها من اية مؤامرات، وكي لا يعطى المجال لمستكشفي المؤامرات ان يظهروا عضلاتهم أمامنا.
البلد القادر على ان يحدد أهدافه ومصالحه، ويؤمن بالقدرات التي يمتلكها، ويبني ويطور الأدوات لحمايتها؛ قادر على العيش بين دول العلم والتفاعل بينها.