رأي
-1-
من أهم سمات الفلسفة، كما يبدو عند بعض المأخوذين بسحر التعريفات، انها فن اثارة المتاعب، او لنقل انها فن لا يتقنه إلا المشاغبون، بدءا من طرح السؤال، ثم تجنب المفازات التي تحيق به، وليس انتهاء بصنع المفهوم.
المعروف عن الذين ينظرون الى الجهد الفلسفي على انه لعب حر يضعون في حسبانهم مدى خطورة لعبة الستر والكشف في ميادين مباريات العقل. فلا كل ما يعرف يقال، وليس كل ما يقال يعرف. نعم انها لعبة الكشف والستر في وغى التفلسف عندنا. أما عندنا، فلا أعرف من المقصود بالضبط لا سيما ونحن نعاني من فراغ تأملي وممارساتي كبير إلا على صعيد الادعاءات. ولعل الفلسفة من أكثر الحقول المعرفية تقبلا للادعاءات والدعوات. لم لا، ففي سريادتنا التاريخية التي تناقش الجهود التأويلية لبني البشر، غالبا ما نجد صعوبة بين تفسير الدجالين والمتفلسين. ولنا ان نعلق ذلك على شماعة غياب المعايير، على دين ان كلما جاءت أمة لعنت أختها. أليس هذا هو الديدن الذي ندور حوله نحن ساسة ومثقفين واقتصاديين وعلماء وقتلة؟
-2-
الادعاء الآخر الذي يجعل من الفلسفة فلسفة هو صنع المفاهيم، كما أفرز المعترك الفرنسي في إحدى موضاته السبعينية / الثمانينية. وفي هذا المطلب نجد أن الطريق الفلسفي اتجه بقدرة قادر الى نوع من التوأمة مع الأجناس السردية الأدبية، وهذا ما دفع المتزاحمون حول مصارعة الديكة الفكرية إلى ان يجترحوا مفاهيمهم في سوق ما بعد الحداثة، الأمر الذي أنتج لنا سيركا وبهلوانيين يتقنون ألعاب اللغة أكثر من ألعاب العقل نفسه. ومن خلال البهرجة والألعاب النارية سارت عربة الغجر الفلسفية الى صوب غوايات النص والأدب. كل هذا ونحن، مشرقيين ومغاربة، لا نحضر تلك الحفلات إلا بصفة متفرجين على جانبي الطريق.. تذهلنا أزياؤهم الثقافية المزركشة، ويطربنا إيقاعهم الراقص على نوتات مشكلاتهم وثوراتهم وقصائدهم وتهريجهم، الى ان وصل الحال بنا اننا لا نرتدي إلا كسوتهم ولا نقص تسريحاتنا إلا على مقاسات رؤوسهم، رغم انهم قالوا بألسنتهم، ونحن نسمعهم بآذاننا، ان ماركس كان فيلسوفا شابا، وشترواوس كان نيّاسا في الغابات الاستوائية، ونحن أيضا لم نسمع بآذاننا بأن أحدا منهم قال للآخر أيها الشاب الغر ما لك وما للفلسفة؟
-3-
علي عبود نجم فلسفي شاب ظهر في مشهدنا الثقافي المتخم بالشعريات والسرديات الى درجة غثيان سارتر، ليضع حدا لفراغ تركه فينا مدني صالح وحسام الآلوسي وكامل مصطفى الشيبي. أقول هذا وأنا أرى فيه علامة عافية في وسطنا الثقافي المترهل من خطب الفضائيين والمدعين وراكبي الدراجات الهوائية، على حد قول الماغوط رحمه الله. فاز مؤخرا بجائزة أنزلت منزلة جائزة دولة، كيف لا تكون وهي ممنوحة من وزارة الثقافة في الدولة كأفضل عمل فلسفي للعام الفائت. وأنا أقر بأن الرجل، لاحظ تحفظي بقول الرجل، وليس الفيلسوف الشاب، قد أنتج في غضون سنوات قليلة مرت ما عجزت عنه أي مؤسسة عراقية مهتمة بالفلسفة، فضلا عن أي مؤسسة عراقية ثقافية أخرى، فقد فتح أفقا مع الآخر في العالم العربي عبر رابطته الفلسفية المهمة، كما جمع جهود الباحثين (مشرقيين ومغاربة) في إصدار أعمال مشتركة رائدة أغرت الكثير، فيما بعد، بإعادة استنساخها بطبعات ودور نشر مختلفة.
-4-
متى يصبح المرء فيلسوفا، ومتى يصبح شابا؟ وهل هناك علاقة بين الشباب والفلسفة؟ بالتأكيد تبدو كلمة شاب، في وسطنا الثقافي، مثل غصة. فهي تغضب الكثيرين ممن كانوا شعراء شبابا. لم أنس حنق وغضب أحد الشعراء، يوم كان شابا وأصبح مديرا عاما اليوم، لم أنس كلمات الاستهجان عندما وصفه أحد الشعراء الكهول بالشاعر الشاب، ولم تسكن ثورته (الشبابية) إلا باعتذار كهولي ضمني مهذب (على قد عقله). وبغض النظر عن طبقية الوصف؛ أجد أن من سوابغ نعم الفلسفة أنها لا تعترف بالزمن، ولا تقيم له وزنا.. فالوزن كله للمنهجية والرؤيا الفلسفية، أو لنقل لإثارة المتاعب وفن صنع المفاهيم. ان من يتفق معي ان كل من يمتلك هذين الفعاليتين يصبح فيلسوفا، بشكل وآخر، فانه لا يجد صعوبة في ان يدرك ان صديقنا علي عبود فيلسوف رغم شبابه، بصرف النظر عن الحفلات الفخمة وأزياء السيرك الغجري الشعبية، وبصرف النظر عن هذا كله.