رأي

قوة المنهج

قوة المنهج

عقيل عبد الحسين

عرف النقد العربي والجامعة العربية عند تأسيسها في بدايات القرن العشرين نوعا من النقد الذي يجمع بين صرامة المنهج ورحابة التطبيق.   وصرامة المنهج تعني تبني المنهج على أنه قاعدة من قواعد النظر إلى العالم وإلى موضوع البحث، وتبني النتائج الناجمة عن ذلك مهما كانت صادمة أو جريئة، والجهر بها.   والجرأة والجهر هما اللذان يقوداننا إلى رحابة التطبيق، فالبحث والنقد يناقشان القضايا التي تمس المجتمع، وتمنع تقدمه وتطوره، ويناقشان أسباب الجهل والتخلف، ويحاولان أن يقدما التحليل العلمي لكل ذلك، مع التصريح بالنتائج بلا خوف أو تردد، وبلغة مباشرة.   ولتوضيح ذلك بمثال أعود إلى واحد من الكتب التي ظهرت في العقد الثاني من القرن العشرين، وتحديدا في عام 1913، وأثار جدلا واسعا كُفر بسببه المؤلف، وفُصل من عمله أستاذا في الجامعة المصرية، والكتاب هو (أحوال المرأة في الإسلام) لمنصور فهمي (1886-1959). وهو أطروحة دكتوراه نوقشت في السوربون، وموضوعها كما هو واضح من العنوان، أحوال المرأة وما تعانيه من تقييد واضطهاد في المجتمع الإسلامي. والمؤلف يصف حالها بالمتراجع والمتأخر، ويدعو إلى ضرورة إعادة النظر في كل ما يقيد حرية المرأة ويمنع تحررها، وبدءا من التعاليم أو التقاليد الدينية.   الكتاب يناقش قضية المرأة التي كانت حاضرة في دعوات التنويريين العرب إلى النهضة والتحديث، وهم يتفقون على أنه لا سبيل إلى تقدم المجتمع العربي إلا بتحرير المرأة. وأشهر من ربط بين الأمرين، أي تحرر المرأة وتقدّم المجتمع، هو قاسم أمين (1863-1908) في كتابيه (تحرير المرأة) (1899) و(المرأة الجديدة) (1901). ومنصور فهمي في آخر كتابه يقرّ بتأثير دعوات أمين في توجهه.   ولكن هل كانت الدعوة إلى النظر في أوضاع المرأة وحدها من جلبت النقمة للباحث؟ لا.. إنه المنهج الذي اتبعه في معالجة موضوعه، وهو المنهج السوسيولوجي، أو الاجتماعي الذي يرد الظواهر المختلفة إلى حركة المجتمع وتأثيراته وطبيعته. فالتغيرات الاجتماعية تفرض على المرأة قيودا وتقاليد معينة. وهي ليست قيودا أو تقاليد ثابتة - فهي تضعف أو تزول كليا، أو تزداد ضراوة، وبحسب تغيّر الزمن، وتطور المجتمعات، أو تراجعها - ولكنها في جميع الأحوال، لا يمكن أن تظل ثابتة وراسخة وصامدة على مر الأزمان ومهما تغيّر المجتمع وتغيّرت التحديات، أو تطورت الحياة، فإذا ثبتت، فعلينا أن نعود إلى أسباب الثبات وننقدها، لنزيح عنها غلالة القدسية التي غلفتها، وجعلتها عصية على القهر والتغيير.   ولكن، وهو سؤال دقيق، أيا كانت تلك الأسباب، حتى إن كانت دينية؟ الإجابة التي يقدمها المؤلف هي: نعم.. أيا كانت، فلا شيء يعلو على المنهج ويستتر منه، أو يُستثنى من حكمه.   والمشكلة في نظر كتاب (أحوال المرأة في الإسلام) في الأساس دينية، تأتي بالدرجة الأولى من اغفال التأثير الاجتماعي في الإسلام نصوصا وتشريعات، وبعد ذلك تأتي من تأبيد أحكام الإسلام على المرأة، وجعلها مُطْلَقَة بعد استبعاد النظر في الظروف التي أوجدتها. والحل هو إعادة النظر في الأحكام المقيِّدة للمرأة من خلال إعادة قراءتها في سياقها الاجتماعي الذي ظهرت فيه وصولا إلى ازاحة تلك الأحكام، وفسح المجال أمام النظرة المغايرة للمرأة التي تناسب العصر الجديد الذي تعيش فيه.   لم تكن محاولة منصور فهمي الوحيدة التي ظهرت في تلك الحقبة التي عرفت محاولة على عبد الرازق (1888-1966) في (الإسلام وأصول الحكم) (1925) لإيجاد مسوغات نصية وتاريخية للفصل بين الدين والدولة، كما عرفت محاولة طه حسين (1889-1973) في كتاب (في الشعر الجاهلي) (1926) لإعلاء سلطة النقد والعقل والتفكير العلمي وما يرافقها من شك في الثوابت تمهيدا لمراجعتها وتغييرها بما يسهم في خلق البيئة المناسبة للتحديث والنهضة.   وكل تلك المحاولات جاءت في سياق السعي الدؤوب الذي اتسمت به تلك المرحلة، لتقديم إجابة عن سؤال تأخر العرب والمجتمعات العربية ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وفكريا وإنسانيا. وكل تلك المحاولات يجمعها الإيمان بالمنهج وما يسفر عنه من نقد علمي لا ينحني لشيء أو يتصاغر أمامه، وتجمعها، أيضا، الثقة بدور المنهج والعقل في تحرير الإنسان من القيود المختلفة، وتطوير واقعه.  

مقالات أخرى للكاتب